الإصلاح والصياح

خلف وابل من قذائف التغيير والإصلاح وصلت قوافل الطبقة السياسية الحالية الى المنطقة الخضراء، بعد أن قذف لصوصها السابقون بآخر ما تبقى لديهم من أزياء زيتونية وأنواط وعناوين الى أقرب مكب للنفايات، تاركين أسلابهم من قصور وفلل وأطيان للمحظوظين الجدد. لم يمر وقت طويل حتى كشف القادمون الجدد للوليمة الأزلية، عن مواهبهم الفعلية البعيدة كل البعد عن كل ما يمت بصلة لما أطلقوه من وعود وشعارات. لجملة من الأسباب والعلل والتي أشرنا الى العديد منها في مناسبات سابقة، انحدرنا برفقتهم الى أوضاع لم تقل بشاعة ومأساوية عما كان عليه الحال زمن النظام المباد. لم يكتف ممثلي هذه الطبقة السياسية الفاشلة والمتخلفة والفاسدة من شتى الرطانات والأزياء ومن شتى التضاريس من الفاو لزاخو، بما حققوه من نكبات وكوارث طوال أكثر من 14 عاماً من “التغيير” حتى سارع الكثير منهم لركوب الفزعة الجديدة لـ(الإصلاح والتغيير) بعد الاستعانة بشيء من المساحيق والعناوين الحداثوية الرائجة من قبيل (المدنية والعابرة والمواطنة وحق تقرير المصير) وغير ذلك من المفردات والشعارات المستباحة. إن تطور الأحداث وما نضح عنها من معطيات فعلية، قد كشف عن عجز وفشل لا مثيل له في التصدي لمهمة إصلاح حالنا وأوضاعنا المتردية يوما بعد آخر، وقد ألحق دعاة الإصلاح المزيفون أضراراً بالغة بها، عندما أغلقوا بادعاتهم الكاذبة بامتلاك المشروع والبديل، الطريق أمام البدائل الحقيقية؛ للنضج والمواجهة مع قوى الجريمة والفساد والتخلف والإرهاب.
لم نشاهد حتى هذه اللحظة غير المخلوقات التي تجيد إطلاق أعلى وتيرة من الصخب والضجيج والادعاءات الخاوية (الصياح)، والدليل على ذلك أنها جميعاً لم تؤسس أية بداية جادة لمشروع له علاقة بالتغيير والإصلاح، لا على الصعيد الحكومي والرسمي ولا الشعبي. كما أن مشروع الإصلاح يرتبط بحجم ومستوى الخراب الذي يواجهه، ومن دون وعي تفصيلاته وشبكة امتداداته وآثاره، تذهب كل محاولة وبغض النظر عن طبيعة نواياها أدراج الرياح. كما أن (فاقد الشيء لا يعطيه) فقد مثلت غالبية المحاولات التي تقمصت ثوب الإصلاح، مجرد اندفاعات متهورة في أفضل الأحوال للقفز على ما خلفته التجارب السابقة من مساحات هائلة للخراب المادي والقيمي. علينا التريث قليلا والابتعاد عن منهج تسطيح مثل هذه الملفات والقضايا المصيرية، والتمعن بعمق ومسؤولية في علل كل هذا العجز والفشل الذي لا ينفك عن مرافقتنا في التصدي لها، كي نضع أقدامنا في الطريق الى الإصلاح الحقيقي لا “الفضائي” كما جرى حتى هذه اللحظة. وفي مثل هذه الاحوال الغرائبية التي نمر بها، نجد أنفسنا مضطرين للتذكير مرة بعد أخرى؛ بأوليات وبديهيات التحولات الفعلية في عالم اليوم، والتي تتمحور حول منظومة قيم الحرية والديمقراطية والحداثة، هذه المستلزمات التي برهنت الوقائع والأحداث على كونها تقبع في قعر قائمة اهتمامات “أولي الأمر الجدد”. ولا يحتاج المرء الى كثير جهد كي يتأكد من ذلك، يكفيه تصفح شيئاً من مشاريع القوانين والتشريعات التي قدمت الى مجلس النوّاب خلال الأعوام الأخيرة كي يتعرف على نوع هموم واهتمامات من يتباهى بكونه ممثلاً للمكونات والمربعات وفضلات العصور الغابرة، والإصلاح هو الضد النوعي لكل هذه الترسانة من البضائع الصدئة، لأنه يمثل التطلعات المشروعة للحاق بالأمم التي أكرمتها الأقدار بنعمة العقلانية والحرية والحداثة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة