أخشى من أي حديث عن كتابة التاريخ، وكلما تحدث أحدهم عن ضرورة هذه الكتابة أصاب بالهلع؛ لأن شهوة هذه الكتابة تعني الذهاب بالاتجاه المضاد، اذ يكون التاريخ بيتاً للأشباح والشياطين والقتلة، واذ يكون مكاناً سرياً للمريدين وحريم السلطان والغلمان أو الجنرالات أو القادة الحكواتيين..
حين أعيد قراءة بعض الكتب التي تتوهم هذه الاعادة أجد نفسي أمام مرويات مشوهة لكتاب بلا ضمير، أو لمحاربين غلاظ، أو لمنافقين أرجوزات أو مزورين يلعبون بالحكايات والارساليات، مثلما أجد الكثير من المراثي، تلك التي تختزن حزن الكائن، ورهاب الكينونة والهوية، حدّ ان من يدون هذا التاريخ لصالح صاحب الدكان السلطوي أو الجماعاتي لايجد نفسه الا جزءاً من تابعية السلطة أو الجماعة الباعة، أو الجماعة الصوت، تلك التي يغيب فيها الفرد الحالم، والعاطل عن حريته وأسئلته..
الفرد هو أخطر ضحايا تدوين التاريخ وإعادة كتابته، بدءاً من مريدي السلطة القدامى، وانتهاء بمريدي سلطة الجماعة مثل رشيد رضا وأحمد أمين ومحمد عمارة وعبد الله النفيسي وغيرهم، إذ وضعوا التاريخ على الطاولة، ومارسوا معه لعبة التعرية والتشريح، وأطلقوا لأصابعهم العبث بالسرائر والأضحيات، والتوهم بصناعة أحداث ضالة، وأبطال مغشوشين، ووقائع لاطعم لها، إذ لاتعدو أن تكون سرديات مفخخة لإشهار سيطرة العصاب والايهام بنقاء الأمة..
الاحيائيون من كتبة هذا التاريخ ضلوا الطريق أيضاً إلى العتبات، حدّ انهم شيعوا ان ضلال الملة والأمة وضياع الدولة يكمن في الخروج عن الأصول، وكأن حفظة التاريخ الأوائل القريبين من السلطة قد وضعوا التاريخ بوصفه أحداثاً وأحكاماً ونقليات في صناديق مقفلة، لذا لانحتاج- على حد وصفهم- الاّ الى جرعات عالية من الاحياء، والى وصم الحداثة والتنوير والعقل بالعار والشنار، واتهام كل الثوار ومؤولي النصوص بالخيانة والمروق والهرطقة والكفر، لأنهم أطلقوا لفرديتهم العنان لأن تكون مجساً لاكتشاف لعبة الوعي المرعبة، ومناكفة السلطة والوعاظ وأصحاب الحكايات المغشوشة والجماعات العصابية.. وحتى مثقفو البرجوازيات العربية وقعوا في الفخ من اليسار واليمين!! اذ كانوا يقترحون قراءات ملفقة، وثورات طارئة وأحلاماً من ورق وطبقات لاتعرف الاّ الشارع بيتاً لتفريغ الشحنات الزائدة، والمقاهي تكايا لطقوس تفريغ الكلام المنقوع والمخلل بالشتائم والأوهام والكراهيات العمومية، بدءاً من كراهية الاستعمار والرأسمالية والقطط السمان، وانتهاء بكراهية الوعي الشعبوي المسكون بسرديات الجماعات التي تحلم بالخلاص الوجودي والاشباع الوجودي والايروسي..
اليوم وبعد كل هذا الذي يجري من الحروب العامة والأهلية والخيانات والأخطاء، من الذي سيفكر بإعادة كتابة تاريخنا المحشو بالرماد؟ ومن الذي سيعطي الحق للكتبة المؤجرين من قبل الآباء العرابين لأن يكتبوا تاريخاً للنسقيات المضمرة والضحايا وحكايات المسكوت عنه؟
هذه الأسئلة ستظل مباحة ومثيرة للريبة والالتباس، ليس لأنها ستعيدنا الى غريزة الخوف من نصوص التكايا، بقدر ما يمكن أن تثيره من فواجع ومرائر تعيد بامتياز فتح الجروح النرجسية للجماعات التي تركض خلف أوهامها دائماً..
علي حسن الفواز