خالد مطلك
في واقع الحال، وبعد كلِّ هذه السنوات، لم يبقَ في ذاكرتي شيء مما قرأته من نقدٍ في الفن التشكيلي، بخاصة ذلك النقد، الذي تطرحه المدارس الشكلّانية والسيميائية على وجه الخصوص، من قراءات مُشَوِّشة أدت بدورها إلى نوع من اغتراب الوعي الجمالي، وهيمنة للقراءات الأحادية، كما لو أن الشكل الفني الخالص هو كل شيء، هو غاية الفن القصوى ومرجعيته النهائية، وكما لو أن وظيفة الفن الوحيدة هي إنه بلا وظيفة. تعاملت هذه المدارس مع الفن على أنه معادلة رياضية قَبْلِّية، وليس نتاجاً إنسانياً يقع في جوهر أسئلة الإنسان، في جوهر قلقه وحزنه ووحشته واغترابه، كما هو في جوهر بهجته ونشوته وحفاوته بالوجود أيضاً.
إن وجود لوحة الغورنيكا لبيكاسو في مبنى الأمم المتحدة، أهم تجمع عالمي لأمم هذا الكوكب، لم يكن في الحقيقة بسبب من نقاوة شكلها الفني الخالص المُنزّه عن قيمتها الاعتبارية، وإنما تمَّ الاحتفاء بهذا العمل لأنه يحمل بُعداً أخلاقيا وإنسانياً وتاريخياً. كما أن أعظم موجودات متاحف العالم من الإرث الفني لعباقرة النحت والتصوير، ظهرت قبل وقت طويل من ظهور النظريات الشكلانية، لم يكن بييرو ديلا فرانشسيكا وبلليني وأوتشللو ومازاتشّيو ومايكل أنجلو ورفاييل ودافنشي وتيتان وفيلاسكيز وسواهم قد قدّموا تلك الأعمال العبقرية، على ضوء نظريةٍ شكلانيةٍ أو منهج علمي صارم. إن الاحتفاء بتجاربهم جرى على الدوام، تكريماً من مواطنيهم وحكامهم وبابواتهم ومؤرخيهم. لم تُقرأ أعمالهم من زاويةِ بُعدها الجمالي فحسب، بل من طاقتها الإنسانية والأخلاقية والدينية.
إن هذه المدارس، لا تريد أن تقول في مجملها غير جملة واحدة، هي إن جمال العمل الفني ينبع من شكله، وهو مكتف بذاته. وأنا طبعاً وكل متذوق مخلص للفن، لا يمكنه نكران ذلك، ولكن لابد للعمل الفني كذلك، أن يدل على شيء ويشير إلى شيء ويقول لنا شيئاً، وكل ذلك بوساطة الشكل ومن خلاله، كما يقول جيروم ستولنيتز.
كل ما أحتفظ به في هذه الذاكرة، هو بعض القراءات الانطباعية للأعمال الفنية، أو المقتطفات العبقرية للفنانين أنفسهم، أو تلك الدراسات التاريخية، التي تتناول جانباً من سيّر حيواتهم والظروف التي عاشوها، الأفكار والفلسفات التي كانت تهيمن في أزمنتهم. الأزمات، الثورات، والتبدلات الاجتماعية العميقة، التي كانت تمس نسيج مجتمعاتهم.
إنها تجربتي الشخصية، التي تعلمت منها عدم المبالغة في أي ممارسة شكلانية في الكتابة، من نوع تلك التي قادنا إليها هوس التثاقف مع مهيمنات الفكر العالمي المعاصر، والتي تفرضها علينا الترجمات المتاحة بين أيدينا، وهي كما تبين لي في الأقل، ليست كل شيء في منتجات هذا الفكر، بل هي الأكثر عزلة، والأقل تداولية في حواضنها الثقافية نفسها، إن الفكر الحديث هو في الغالب فكر إنساني يميل إلى توضيح أسئلته المعرفية وجعلها متاحة للفهم.
***
ستار كاووش ظاهرة مهمة في تاريخ الفن العراقي، الذي هو في الواقع تاريخ فقير نسبياً، حيث من المعروف إن علاقتنا بفن النحت والتصوير لا تتجاوز قرناً واحداً إلا بقليل، هذا إذا ما أضيفت إليها التجارب المبكرة لعبد القادر الرسام، وحذفت منها تلك الطفرة الوراثية والنبت الشيطاني الغريب يحيى بن محمود الواسطي.
وقرن من الزمان، هو عمر (طفل) في تاريخ الفن التشكيلي العالمي، وبشكل خاص ما بات يعرف بالفن الغربي، الذي تواصلت سيرته منذ العصر الكلاسيكي، ثم الروماني وفنون العصور الوسطى والفن القوطي والرينيسانس والباروك والركوكو والرومانسية والواقعية، حتى ولادة المدرسة الانطباعية، التي منها ولدت فنون القرن الماضي المتنوعة باتجاهاتها، وتياراتها ورموزها ومغامراتها التي لا يمكن حصرها هنا.
إن زيارة قاعة عرض واحدة، نقوم بها إلى متحف صغير نسبياً، مثل متحف بريرا (Brera) في مدينة ميلانو الإيطالية، نستطيع أن نشاهد أعمالاً أكثر بكثير مما أنتجه الفن التشكيلي العراقي في النصف الأول من القرن العشرين، والذي على العكس منه تماماً، جاء النصف الثاني غنيّاً نسبياً، وقدم عدداً كبيراً من الفنانين التشكيليين، عدداً ملفتاً للنظر لكنه وبحسب اعتقادي عدد كبير بفنٍ قليل.
من بين هذه الوفرة العددية والندرة الفنية، يأتي أسم ستار كاووش، هذا الفنان الموهوب ليُشيِّدَ سيرته المميزة والمغايرة، سيرته البغدادية عندما كانت بغداد لم تَزلْ مدينة تحافظ على شيء من حداثتها، متأملاً ناسها وبناياتها وشوارعها بعين الفنان الملهم، مدوناً قصتها الجمالية، التي لم يلتفت إليها أحد من قبله بهذه الصراحة والمباشرة.
وكاووش في الجانب الإنساني، شخصية مركبة يصعب وصفها بسبب من تلك الروح المضطربة في الأعماق والساكنة على السطح، هو ذلك المزاج الحاد والحساسيَة المفرطة. مزيج من روح الطفل المتفائل والعنيد. خليط عجيب من رقة التهذيب والاستبداد في الرأي والنرجسية والتواضع، المغامرة والتحفظ والحذر الشديد، حب الحياة والانصراف عنها للمرسم طويلاً، مختلف في ملبسه وتسريحة شعره ومشيته وغيابه وحضوره، إنه كل ذلك في الوقت نفسه.
في مجال الفن، هو ذلك الجريء المقاتل الشرس بخشونة ألوانه وبدائيتها، بتعانقها وتصادمها، بسمك عجينته وطراوتها. فرشاته ليست متسامحة مع سطوحه، ونسب حجومه هي عدوانات متكررة على شخوصه. يقطع ويبتر، يطيل ويقص كيفما أتفق له مزاجه واستقرت عليه عاطفته وقرً انفعاله. يرسم بإرادة حديدية، لا تعرف التسامح والتراجع والتعديل. يرسم في لحظة غريبة، كما لو أن عقداً فولاذياً يربط عاطفته الجياشة، وخياله الجامح، مع عقله المنظم، ويده المدربة. ولكنه عندما يأتي إلى المرأة، إلى الحب، إلى الرومانسية، يتحول ملمس سطوحه إلى مرايا، صافية ومنسابة، مرنة وشفافة. إنه كل ذلك في الوقت نفسه.
في هذا الكتاب، سأتوقف ككاتب لسيرة ستار كاووش الفنية، عند أهم محطات حياته، التي شكلت رؤاه وتصوراته عن الفن والمدينة. وسأذهب معه إلى حيث تخطيطاته الأولى، وسأحاول متابعته حتى ساعة مغادرته العراق، في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. سأتابع أهم معارضه، وسأكتب انطباعات جمالية في الغالب، وقليلاً من القراءات الشكلية عن بعض أعماله. سأبحث علاقة هذه الأعمال بمصادر كاووش الفنية، وأسلافه من الفنانين، الذين تأثر بهم ونهل من تجاربهم وباتت آثارهم تتنفّس في لوحاته.
في مجال الفن، والرسم بشكل خاص، ليس هناك فنان بلا آباء، بلا مراجع، بلا مؤثرات، هذا أمر غير متصور في تقاليد الفن العالمي، حيث إن نَسخ الأعمال وإعادة إنتاجها أمر يكاد يكون من تقاليد هذا الفن وثوابته، وذلك منذ ظهور تمثال فينوس عام 350 قبل الميلاد في كنيدوس، على يد براكتستيليس، ثم تكرس ذلك في ظهور الجماعات الفنية في عصرنا الحديث، التي تتغذى تجارب أعضائها من بعضها البعض، أسلوباً ولوناً وموضوعات حتى، ولكن في خضم كل ذلك، تبقى مثلا لوحة جيوتو (العذراء فوق عرشها) من القرن الثالث عشر، أهم كثيراً من الأصل الذي نُسخت عنه لأستاذه تشميابويه، والتي تحمل الاسم نفسه، بل إن لوحة التلميذ قد عدها النقاد نقطة تحول عميقة في تاريخ الفن الأوروبي، وذهب بعضهم، إلى إنها أول إرهاصات عصر النهضة. حتى إن إليغيري دانتي، قد خص جيوتو بمقطع في الكوميديا الإلهية، يقول فيه: (إن شهرة المصور تشيمابويه قد أفلت بعد ظهور نجم جيوتو).
ولدت أهم أعمال كاووش في لحظة خاصة من حياة بغداد، لحظة مفصلية فريدة، هي لحظة الانوجاد بين مدنية صاعدة وانهيار مروع يتربص بها في المجهول، وبحدس الفنان تمكن من الإمساك بجوهر هذه المدينة، بذلك الشيء الذي هو فكرة بغداديتها، تلك الفكرة التي يمكنك العثور عليها في وجه رجل متعب يتوه في الزحام، في وقع خطوات سيدة على الرصيف، في جدار من الوجوه وهي تنتظر في موقف الباصات، في دخان سيجارة تنفثه امرأة عاشقة، في قلق حسناء تجلس في يوم شتائي على مصطبة الانتظار، كما يمكنك أن تعثر عليه في غياب وجه رجل وراء جريدة، وكذلك في المطر وهو يغسل إشارة المرور، وكلما وقعت عيناك على أي من هذه التفاصيل في عمل من أعمال كاووش، تصرخ مندهشاً، إنها بغداد التي لم أرها من قبل.
سأحاول قدر الإمكان، أن أجعل من لغة الكتاب بسيطة ويسيرة على القارئ، وكذلك سأحاول أن أجعل من سيرة ستار كاووش، قصة مشوقة للفنانين الشباب، الذين تدفع بهم مواهبهم إلى خوض مغامرة الفن، وأحاول أيضاً، أن أجعل من هذه السيرة وثيقة تشبه كاووش، وتشبه لوحاته التي ستشكّل صورها المادة الأكبر في هذا الكتاب، سأحاول وأدرك إنها محاولة صعبة، محاولة صعبة جداً أن تقول: لماذا هذا الفن جميل؟ وهل هو جميل لأنني أُحبه؟ أم إنني أُحبه لأنه جميل؟. ويبقى في النهاية تذوق الأعمال الفنية، أهم بكثير من محاولة فهمها.
سأضطر هنا في هذه الرحلة، للتوقف أحياناً عند أحوال بغداد وناسها، ملمحاً للتبدلات العميقة التي طرأت على بناها المجتمعية، سيختلط من دون إرادة مني، هوسي بهذه المدينة مع إعجابي برسامها، سأخلط بين واقعها، وبين مقترحاته الجمالية. سأغادر لوحاته إلى شوارعها، وربما سأدخل من شوارعها إلى لوحاته، لأنني هنا، وكما أسلفت، لست بصدد دراسة نقدية، أنا هنا مجرد كاتب سيرة مدينة كاووش.
بقي أن أقول، إن في هذا الكتاب، ثمة مقترحاً معمارياً لمتحف يخص ستار كاووش، صممه المهندس الشاب محمد الصوفي بعد نقاش معمق جرى بيننا في هذا الشأن، وسأترك له فصلاً مستقلاً للحديث عن هذا التصميم، الذي سنحاول تنفيذه تخليداً لتلك الأعمال البغدادية، التي وجدنا من الضروري أن نحافظ عليها للأجيال المقبلة، ليتعرفوا على منجزات هذا الفنان الموهوب، وعلى الإلهامات التي تلقاها من سحر عاصمتهم الخالدة.
* مقدمة كتاب «مدينة كاووش- kawoosh city» عن دار نشر تشارلستون الأميركية، وهو سيرة فنية لحياة الفنّان ستار كاووش عندما كان في بغداد.