سنية عبد عون
تكاد الشمس ان تتوسط كبد السماء وهي تغازل نهر الفرات كما تغازل احلامي التي سئمت الانتظار …انتظار حلم يراود مخيلتي منذ سنين .. ان تغفو جفوني مطمئنة تحت أفياء شجرتي التين والزيتون … متشابكات بحنان وتودد بينما تتباهى أعذاق النخيل وهي تميل باكتناز أعذاقها وليت حراسها يبتكرون فكرة يتصدون خلالها لأسراب العابثين الذين يحومون حولها ..
كنت في انتظار عزف شجي دافئ يطمئن روحي التي تكتب قصائدها بلا حبر … مبعثرة فوق حزمة الوان قوس قزح (أو سيف الله كما تسميه أمي)
في ربى احلامي أحن لفجر جديد يشق صمت ليلي الطويل كطول ليل أمرؤ القيس … بالأمس حلمت اني أضحك ملء فمي ..!!! وحلمت ان جمل الصحراء كان انساناً …أو ان الانسان كان جملا في الحقيقة …..!!!
القصة ….
هناك عند شاطئ المدينة ينبعث من اعماق ذاكرتي صدى لحن لأغنية قديمة.. (عدّ وآنه اعد ونشوف ياهو أكثر هموم) ..كان الصدى يمتزج بعبق الزهور عند مدخل مدينة الحلة ذات التاريخ الجليل تفيض حرارة الشمس بلا هوادة في سماء ايلول ….
كانت سيارتنا تجتاز الشارع ببطء شديد ونحن نتفحص واجهات المحال التجارية باحثين عن ( براكيتة ) ( وهي قاعدة لمصباح كهربائي وفيها تصاميم مختلفة ) وهذا حسب طلب ولدي البكر الذي يروم شراء عدد منها لواجهة دارنا الذي بنيناه مؤخراً فهو يكره الظلام وعتمة المنازل ….لقد نجح في اقناعي ان مدينة الحلة فيها المحال المتعددة التي تعرض انواعاً مختلفة من بضاعتها وهذا مما لا يتوفر في مدينتنا ( المسيب ) حيث نسكن ….كان يحدونا الامل ان نعود ببضاعة نتباهى بجودتها وأناقتها ….ان المسافة بين المسيب ومدينة الحلة تقدر بثلاثين _كم_ تقريباً ….احتدم النقاش بيني وبين ولدي خلال تلك المسافة بالنسبة لعدد البراكيتات وحجمها ولونها …الخ
حين وصلنا الى حي الامام في مدخل المدينة كانت المفاجأة في انتظارنا حيث أغلق الشارع قرب مجسر الحسنين ….فقد كانت هناك جموع غفيرة من المتظاهرين تهز الارض تحت اقدامها تحركنا نحو الجهة الاخرى فوجدناها مغلقة هي ايضاً.
أعجبني حماستهم وأهازيجهم التي كانوا يرددونها فقد تغلغلت في أعماق روحي ….كان شعوري يلهمني ان مشاعرهم النبيلة واعدة بإيصال صوتهم كأنهم يستعطفون الشمس ان تبث ومض سناها في ارجاء الوطن ويتساءلون ان كان قانون مندل في الوراثة والجينات قد اختص بتوريث عهود المحنة وربط الاحزمة في هذه البقعة من دون سواها ….
كان الامام علي (عليه السلام ) يتوسط هذه الحشود بأريج عدالته وجلبابه الذي يرقعه بيديه ….
كأن قلوب الحشود تستحضر روحه الطاهرة فخلته بينهم رافعا يده يومئ بالهدوء والصبر ….
فكرنا بطريقة تخلصنا من المأزق فكان اقتراح ولدي ان ندخل سيراً على الاقدام من احد الطرق الفرعية وان كانت أبعد مسافة عن المحل الذي نروم زيارته …
فاضت بي رغبة ملحة ان أسمع أهازيج المتظاهرين وأرى ترتيب أماكنهم فقد كانوا على نحو متسلسل من المجموعات وكل مجموعة تكمل اهزوجة ما قبلها دفعتني مشاعر غريبة ان أتصدر احدى هذه المجموعات ثم انتابني احساس بالزهو فقد انضمت معي بعض النسوة من شتى الاعمار .
ازداد العدد من كلا الجنسين حتى لا يكاد المرء ان يجد طريقه فيما اذا قرر ان ينضم الينا ….
انعدم حساب الزمن في تلك البقعة النابضة بالحياة .. كانت رؤوسهم مشرئبة كأنهم في حفلة عرس فخمة .. المشهد يشدني ساعة بعد ساعة، ولكن سرعان ما تناهى الى سمعنا آذان العصر ولا بد لنا من العودة .. صعدنا الى محل البراكيتات في الطابق الثاني حيث تطل شرفته الزجاجية على حشود المتظاهرين… فوجدنا هناك انواعاً غريبة الطراز من البراكيتات فتحيرنا أي منها أجمل من الاخرى….وأي منها نختاره .. والطريف في الامر ان المحل كان فارغاً …ضحكنا كثيراً لأننا نبحث عن براكيتة في مثل هذه الاجواء المشحونة بالحماسة .. وفي غمرة تصاعد اصوات المتظاهرين نسينا ما جئنا من اجله مرة أخرى وأخذنا نراقب الاحداث من خلال الواجهة الزجاجية، وغرقنا بنشوة الفرح بالحرية التي يمتلكها المتظاهر بعد ان تخلصنا من عهود الدكتاتوريات الظالمة ….
ولكن مهلا .. فقد حدث اضطراب في صفوف المتظاهرين وسمعنا الافواه تتصايح من كل جهة من دون معرفة الاسباب ….وعن بعد أبصرنا ظهور سيارات سود كبيرة الحجم وهي تشق صفوف المتظاهرين وترشقهم بخراطيم المياه المسيلة للدموع وما هي سوى لحظات حتى فرت الجموع المحتشدة نحو الارصفة تلاحقها قعقعة البنادق ووابل الرصاص كأنه المطر …انزوت النسوة داخل المحال التجارية .. تسرب قلق غير متوقع لأعماق روحي وتوقعت أحداثاً غير مريحة عندما تعالى هدير السيارات السود وأيقنت اننا سنواجه موقفاً سيئاً لكن موقف المتظاهرين شدني من جديد …. ….فما ان تبتعد السيارات السود قليلا حتى يعود المتظاهرون الى ساحة التظاهر بطريقة أقوى من السابق .. صعد الى داخل المحل الذي نتواجد فيه ما يقارب من الخمسين شاباً وهم يلهثون ….كانت عيونهم محتقنة وقانية بشكل غريب كانوا ينبطحون على وجوههم فوق ارضية المحل وهم يصرخون ….من لديه ماء….؟؟
في هذه اللحظة فاجأتني نظرات امرأة في مطالع الاربعينيات وهي تضع يدها فوق صدرها وقلبها يخفق خفقاناً سريعاً فأبدت عدم رضاها واستياءها بحشرجة مؤلمة …وهي تتساءل عن حرية التظاهر موجهة كلامها لأحد الرجال …. ويا للمصادفة الغريبة فقد كان هذا الرجل هو أحد الضباط الذي أنيطت به مسؤولية الحفاظ على هدوء الموقف …..غضبه الشديد من كلامها جعلها تعتقد ان هناك فئتين في ساحة التظاهر ….(مع … أو ضد) …اقتربت المرأة مني بوصفي المرأة الوحيدة داخل المحل، ثم همست بأذني….. (الاخت …من أي فئة) نظرت اليها نظرة منطوية على التغابي ثم ضحكتُ بصوت مسموع وقلت لها .. انا من فئة البراكيتة جحظت عيناها وتسمرت في مكانها ثم راحت تبتعد عني وجلة..