كلما تشتد الأحوال وتتأزم الاوضاع، ويصل عيال الله من مختلف الازياء والرطانات الى حافات الانهيار واليأس، يخرج علينا سكان الابراج العاجية من وعاظ ومثقفي الديباجات والتزويقات المتراقصة على انغام الايقاعات والاناشيد المهيمنة وسط عجاج عصر “الهويات القاتلة” بفزعة من البيانات المذيلة بتوقيع (لفيف من المثقفين) يسطرون فيه خربشاتهم عما يرونه ويقترحونه من تقديرات وحلول للمحطة الجديدة من المأزق القيمي والتاريخي والذي انحدرنا اليه بالاساس بسبب من خيانتهم للوظيفة والواجب والذي كان يفترض بهم النهوض به، الا وهو مهمة النقد والتنوير..!
مهمة المثقف الحقيقي لا المزيف، هي النقد الذي يوجه للسراق والمستبدين في اسطبلات طائفته وقوميته وابناء جلدته أولاً، لا ان يتحول الى دابة يمتطيها سدنة “هويته القاتلة” في القتال ضد الطوائف والقوميات الاخرى. المثقف الحقيقي هو من يمتلك الرؤية والوضوح في المحنة وزمن العتمة والغيبوبة، هو من لا تنطلي عليه حروب سراق الشعوب، من الذين يعتاشون على الحرائق المندلعة اليوم باسم العرب والكرد والترك والشيعة والسنة الى غير ذلك من الحروب الخاسرة، والتي لن تفضي لغير التشرذم والانحطاط على حساب الحقوق المشروعة للمجتمعات والامم.
المثقف الحقيقي هو من يخون كل هذه الترسانة القبيحة من قيح الشعارات المتعصبة عرقياً وطائفياً، لينتصر لحق الانسان وحرياته من دون تمييز وكما دونته لائحة الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948. لا ذلك الذي يبايع دكتاتوره القومي أو الطائفي تحت ذريعة الشماعة البالية (الخطر الخارجي) والذي يجيد استعمالها سدنة التخلف والشراهة والقهر. نعم، لا أحد يمكن ان ينكر حجم المخاطر والتهديدات التي تحيق بنا جميعاً، نحن سكان هذا الوطن المثقل بالفواتير الباهضة، نتيجة عقود من هيمنة أحد ابشع الانظمة التوليتارية في التاريخ الحديث، ولا أحد بمقدوره نكران نوع الفشل الذي حصدناه بعد مرور أكثر من عقد على سقوط النظام المباد. وكل هذا لا يدعو من يطلق على نفسه لقب (مثقف) الانخراط بكل خفة وسط احتفالات الضاجين على مسرح الاحداث، ليصبح ذيلاً غليظاً يرفد بتخبطاته العتمة بمزيد من العجاج.
ان مثل هذه الممارسات والنشاطات (اصدار البيانات) هي اليوم جزء من واجب رد الدين لبركات الرزق الريعي، والذي وسم هذه الحقبة بميسمه، حيث عممت تقنية التدجين الواسع والشامل لما يسمى بـ (المثقفين والكتاب) والتي نجحت نجاحاً باهراً نهاية السبعينيات من القرن المنصرم في مضارب خير امة، الى باقي فروعها، حيث يندر ان نعثر على من يتجرأ على حصن ثوابتنا الخالدة التي اهدتنا كل هذا الضياع.. والى بيانات اخرى من قعر الحضيض.
جمال جصاني