دغل الحداثة واليسار

في مثل هذه الأوضاع والمناخات واصطفاف القوى، وانحطاط الوعي المرافق لها، نشاهد من يطرح نفسه وبكل خفة، بوصفه ممثلاً لقوى الحداثة واليسار، من دون الالتفات لمعنى هذه المفاهيم والعناوين الكبيرة. يمنحون أنفسهم وبقايا حطامهم السياسي والآيديولوجي مثل هذه الالقاب لكونهم ما زالوا ضمن فلول ذلك “اليسار” أو أنهم عملوا يوما ضمن صفوفه، بغض النظر عما نتج عن انخراطهم في ذلك النشاط من نتائج ووقائع على الصعيد الشخصي والاجتماعي. يشكّل ما يمكن أن نطلق عليه بـ (دغل الحداثة واليسار) ذروة المأساة في مشوار ذلك اليسار، فبعد الهزائم المريرة التي لحقت بمراكز قوته وحيويته، وحولته تدريجياً الى كيان هلامي لا ملامح وهوية له، تلقفته شريحة (الدغل) لتحوله الى ذيل للإيجارومتعهد لأداء الأدوار المتفقة وشراهة الحيتان والغيلان النافذة. وهنا لا بد من الإشارة الى خصوصية اليسار العراقي وأهميته، لا سيما للأجيال الجديدة التي لاتعرف غالبيتها شيئاً عن تأريخه والأدوار التي لعبها في تأريخنا الحديث. ذلك اليسار بمعناه الثقافي والحضاري والإنساني لا الآيديولوجي الضيق؛ كان بمثابة الرافعة الأساس لنهوض المجتمع العراقي في نهايات النصف الأول من القرن المنصرم، ومثل البوابة الأكبر لمرور أفكار وقيم الحداثة لسكان هذا الوطن القديم بعد انقطاع واغتراب طويلين عما يحيط بهم من تطورات وتصدعات وثورات قيمية وعلمية. لذلك لا يمكن فك طلاسم ذلك التطور الكبير والواعد الذي عاشه أسلافنا في بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، بمعزل عن فهم حيوية ونشاط ذلك اليسار ودوره في تلك التحولات، وفي نفس الوقت ارتباط الانحدار والردة الحضارية اللاحقة بما تعرض له من حملات شرسة ومنظمة للقضاء عليه. أما اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن على تحول الإمكانية السلبية الى واقع، وانطلاق الردة السياسية والحضارية وما رافقها من انحطاط وكوارث وهدر للحقوق والمكاسب التي تحققت نهاية الخمسينيات، فان الحديث عن وجود يسار وممثلين عن ذلك الإرث المشرق الذي توهج قبل الردة لأسباب موضوعية وذاتية؛ يعد في أفضل الأحوال، امتداداً لما هو سائد في المشهد الغرائبي الراهن من هلوسة وهذيان، ومن يصر على طرح نفسه ممثلاً أو امتداداً لذلك اليسار، وبغض النظر عن الدوافع الفعلية التي تدفعه لذلك، يقدم خدمة مجانية للقوى والشروط التي تعيق ولادة يسار جديد يمثل الحاجات والتحديات الواقعية لما يفترض أنه مرحلة للعدالة الانتقالية، والتي تحتاج لمثل هذا الفصيل الوطني والحضاري لا سماسرته والمتاجرين بيافطاته وشعاراته. إن الهيمنة شبه المطلقة للقوى التي تمثل الضد النوعي للحداثة واليسار، على مراكز القوى الحيوية شعبياً ورسمياً، يتفق والمعطيات الفعلية (لا التمنيات) للمشهد الراهن، والذي يستند لبنية تحتية وأسلوب لإنتاج الثروة وتوزيعها وتراكمها (الاقتصاد الريعي) وما يرافقه من قيم الشراهة والضحالة والفساد وانعدام سلطة القانون. لذلك لم تتوافر أية فرصة واقعية لظهور توجهات حداثوية ويسارية، كما حصل في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم. في مثل هذه الأوضاع العسيرة والملتبسة، لا نحتاج للمزيد من الأوهام، والتي لن تفضي لغير المزيد من الدقلات، بل نحتاج للشجاعة ومواجهة حقيقة عدم وجود بدائل حداثوية ويسارية لهذه الكتل والقوافل التي أوصلتنا الى كل هذا الحضيض السياسي والقيمي. قد يبدو مثل هذا الرأي متشائماً ومثيراً للقنوط لدى غير القليل ممن تلبستهم روح المرحوم غرامشي في الوقت الضائع، لكنها تذكرنا بالعبارة الشائعة في كلاسيكيات اليسار (الجيوش المهزومة تجيد التعلم)..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة