خطابات التشرذم

ما تعرّض له سكان هذا الوطن القديم من استباحات على شتى الأصعدة؛ جعلت منهم وسطاً مناسباً لكل أشكال “خطابات التشرذم” إذ لم يكتفوا بالتشرنق على أساس الانتماءات الطائفية و الإثنية والآيديولوجية وغيرها من منظومات التفكك والانقسام على أساس الهويات القاتلة، ليتطوع عدد من المحسوبين على شريحة الإعلاميين والعاملين في مجال الثقافة والفكر، ليبتكروا شكلا جديدا للتمترس والتشرذم على أساس البقاء في الوطن أو الهجرة منه (عراقيو الداخل وعراقيو الخارج) من دون أدنى وجع من عقل أو ضمير. إن حاجة العراقيين للوحدة والتضامن في مثل هذه الأوقات والتحديات والمخاطر الاستثنائية التي يتخبطون وسطها، ليست ضرورية وحسب بل تمثل اليوم خشبة الخلاص الوحيدة لهم من الكارثة المحدقة بهم. لذلك فإن مثل هذه المحاولات والخطابات تصب الزيت على المزيد من الحرائق وبؤر التوتر الموجودة أصلاً، وهذا يتنافر ووظيفة المثقف والإعلامي الحقيقي، الذي يتحول في مثل هذه الظروف الى إطفائي يكرّس كل قدراته ومواهبه من أجل إخماد مثل هذه الحرائق المميتة. من المعيب حقاً أن نقرأ ونشاهد خطابات وآراء تتطرف في هجومها على أحد هذين الطرفين (شيطنته) والدفاع عن الآخر وتبجيله (جعله ملائكياً) وبالعكس، ولا تحتاج مسألة الهجرة من الوطن أو البقاء فيه، الى كل هذه الاندفاعات للتعبئة والتجييش ضد بعضنا البعض الآخر؛ فالشعوب والمجتمعات جميعها تقريباً قد عرفت مثل هذه التجارب قديماً وحديثاً، وعوضا من تحولها الى مصدر إضافي للتفكك والانحطاط، يمكن أن تتحول الى منبع للقوة والتعددية في التجربة والثراء المادي والقيمي. إن منهج تعميم بعض الظواهر السلبية من فساد ومواقف وقرارات غير مسؤولة، تتخذها طبقة سياسية فاسدة قبل “التغيير” وبعده؛ يلحق أبلغ الضرر بمصالح العراقيين ووعيهم لما يتربص بهم من تحديات ومخاطر جسيمة.
آخر ما نحتاجه اليوم هو الانجراف الى جوف قبيلتين جديدتين هما (الداخل والخارج) لنكون مثالا للقول الشائع (كمل الغركان غطة) وكأن بقية الثنائيات والتشرنقات على أساس “الهويات القاتلة” لم تسد شراهة البعض للمزيد من التشرذم والذلة والهوان. ما نحتاجه في مثل هذه الأوضاع المتخمة بضيق الأفق وضحالة الوعي؛ هو الرأي المتوازن والموقف المسؤول الذي ينتشل المتلقي من الغيبوبة المحيطة به، عبر نشر وبث كل ما يساعد على ترميم جسور التواصل بين شعوبه من شتى الرطانات والتجارب والأزياء، وعبر فضح وكشف المسؤول الحقيقي عن كل ما تعرضنا إليه من هزائم سياسية وعسكرية وحضارية، بشكل ملموس وموضوعي وواضح بعيداً عن متاهات التعميم وخلط الأوراق والنبش بترسانة ثنائيات الدمار الشامل. إن الهروب من مواجهة الشروط والعلل التي أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من هشاشة وتشرذم، لن تمنحنا سوى المزيد من الضياع والذي يتيح في نهاية المطاف لقوى الإرهاب والفساد في التمدد والبقاء على تضاريسنا المنكوبة، وهذا ما لا يتفق والوظائف الأساسية للإعلام المهني والمسؤول. من بقى داخل الوطن له ظروفه وأسبابه، ومن هاجر بعيدا عنه له دوافعه وأسبابه، ولكل حالة ظروفها وشروطها الخاصة. داخل الوطن هناك صفحات مشرقة وأخرى مخزية، كذلك في المنافي ومناطق الشتات، ما نحتاجه فعلاً هو؛ تهيئة كل الشروط والمناخات المناسبة لتلاقي الروافد السليمة من هذه التجارب المتنوعة؛ كي تعيد لهذا الوطن وسكانه همتهم وحيويتهم والمكانة التي تليق بهم في عالم زادته الثورات العلمية والقيمية انسجاماً وتراصاً…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة