هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث

د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 6
خلال ايام مؤتمر الاوبك نضجت نقاط الاتفاق بشأن المسألة الرئيسة-شط العرب-والمسائل الاخرى بجهود الوساطة الجزائرية. ذات ساعة وفي احدى القاعات الجانبية للمؤتمر كان الثلاثة واقفين-صدام والشاه وبومدين-وعلامات التشنج ظاهرة على وجوههم.
استغرق الحديث المتوتر بين صدام والشاه وقتاً اطول بسبب الترجمة التي كان بومدين يقوم بها من العربية الى الفرنسية وبالعكس. شعر بومدين بالإحراج امام عيون الاخرين من اعضاء الوفد فأخذ بيدي صدام والشاه الى خارج القاعة. وفي سيارة متواضعة-رينو16-جلس صدام والشاه في المقعد الخلفي وجلس بومدين بجانب السائق، وانطلقت السيارة الى مكان لم نعرفه حيث تمت تسوية النقاط العالقة.
في اليوم التالي وفي قاعة المؤتمر اعلن الرئيس الجزائري عن حدث مهم: الاتفاق بين بلدين جارين عضوين في الاوبك هما العراق وايران. وقف الملوك والرؤساء مصفقين وقتاً طويلا لهذه البشرى الكبيرة. لكن المفارقة حلت فأضافت الما وحقداً في قلب صدام. اذ ترك صدام مقعده متوجها لمصافحة الشاه ظناً منه ان الشاه سيفعل الامر نفسه ويلتقيان في منتصف المسافة لتبادل التهنئة (البروتوكولية). الا ان الشاه بقي واقفاً امام كرسيه ولم يتحرك خطوة واحدة، واضطر صدام ان يكمل المسافة وحده حتى وصل الى الشاه وتمت المصافحة فعدّ صدام تصرف الشاه نوعاً من الاهانة ولم ينس هذا الجرح الشخصي والرسمي طيلة السنوات التي تلت.
وقع الاتفاق الذي سمي (اتفاقية الجزائر) في 6اذار/مارس 1975 حيث تم بموجبها حل مسألة شط العرب بتنازل العراق عن جزء منه والاتفاق على رسم حدود دولية جديدة في مياهه معتمدة على خط (التالويك)، ويعني هذا من الناحية العملية الخط المائي الذي يهتدي بأعمق النقاط في قاع النهر.
من المسائل الاخرى المهمة التي اتفق عليها يأتي التزام ايران بالكف عن دعم فصائل اكراد العراق في حركتهم ضد حكومة بغداد. وبالفعل وعقب فترة وجيزة على اعلان اتفاقية الجزائر توقفت هجمات الاكراد العسكرية وتوجه الزعيم الكردي البرزاني وجماعته الى ايران بعد ان وفر الشاه لهم الاقامة فيها.
ويرى الكثيرون ان الشاه استعمل القضية الكردية ورقة للضغط العسكري والمالي على بغداد لتحقيق هدفه في كسب جزء من شط العرب الذي تطلق ايران عليه اسم (اروند رود)، بينما لم يكن هدف الشاه تحقيق رغبات الاكراد القومية في العراق ، فتلك مسألة ستعود عليه مستقبلا وتحرجه. ولو كان الشاه صاحب حق وعدل لما ترك الاكراد في ايران نفسها على ما هم عليه.
كان الضغط العسكري من جانب ايران وفصائل الاكراد على حكومة بغداد جسيماً يصعب تحمله طويلا، واستمراره بات يعني استنزافاً للموارد وتهديداً حقيقياً للحكم وهو بالضبط ما كان الشاه يريد التوصل اليه. واخيرًا قرأت بغداد النتائج المتوقعة، واستخلصت-حسب حساباتها- ان ما من باب امامها للخروج من الازمة غير القبول على مضض بمطالب الشاه. وكانت الحصيلة النهائية: خسران العراق جزء من شط العرب، توتر العلاقة بين بغداد والقوى الكردية عوضاً عن تطويرها في ظل بيان 11 اذار1970 وقانون الحكم الذاتي 11 اذار 1974 وكان الشاه هو الرابح الوحيد من العملية.
في هذه المنازلة خسر مجلس قيادة الثورة اول تحد كبير، وكانت الصدمة عليه كبيرة خاصة بعد تجاوز منازلات سابقة وحقق مكاسب عديدة وامم شركات النفط الاجنبية مع عزمه على تحقيق الانتصارات الواحد بعد الاخر. لم يكن سهلا على صدام ان يبادر هو بالذات بالتوقيع على اول خسارة كبرى، ويضطر للذهاب الى المنتصر-الشاه -في قاعة مؤتمر قمة الاوبك ليصافحه امام عيون الملوك والرؤساء واعضاء الوفود. فظلت هذه المسألة تحرق قلب صدام ولمس من كان يراقب وجهه ويسمع كلماته انه سوف لن ينسَ هذا وهو المعروف باغتنام الفرصة للرد والثأر.
وبعد نحو خمس سنوات جاءت الفرصة-طبق حساباته-فأشعل الحرب مع ايران لا في عهد الشاه ولكن في عهد الثورة الاسلامية املا ان يسترجع بالقوة ما فقده بالقوة فكان شط العرب على رأس مطالبه الاخرى هدفا لتعزيز دوره في الساحة العربية. وانتهت هذه المنازلة ايضا بهزيمة مرة لسياسة النظام ببغداد في ختام حرب الثماني سنوات، بعد رفض حكام طهران اخماد لهيبها بعد مرور اربع سنوات على اندلاعها، ما زاد في انهاك البلدين على حد سواء.
وفيما كان صدام الشخص الثاني في الحزب والسلطة اثناء مرارة النتائج عام 1975 فانه كان الشخص الاول حين قاد بنفسه المعركة مع ايران عام 1980 وحصد نتائجها الجسيمة في النهاية، ما ولد في نفسه اندفاعاً عارماً للخروج من طوق التراجع والخسران. فولدت تلك الحالة الارضية النفسية التي دفعت به ضمن عوامل اخرى الى دخوله في حرب الخليج الثانية-احتلال الكويت-ظناً منه ان ما يحسمها هذه المرة هو تفوقه العسكري على الجارة الصغيرة الكويت، وتناسى ان يدخل في حسابه انه سيقارع جبهة دولية اكثر منه تفوقا بأضعاف بتجاوزه خطوطاً حمر فصح نتائج مغامرة شنعاء مرة اخرى بعد ان طحن البلدين الشقيقين بويلاتها.
صدام يكرم صاحب المقهى في القاهرة
في أواخر شهر آذار/مارس 1972 توجه صدام حسين-حين كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة- لزيارة مصر على رأس وفد كبير كنت احد اعضائه. وفي قصر الضيافة المخصص لصدام قام الطاقم الامني العراقي، كعادته في مثل هذه الزيارات رفيعة المستوى بفحص مكان الاقامة في الساعات الاولى للتأكد من خلوه من اجهزة التنصت. فكشف الطاقم عن وجود هذه الاجهزة في حائط خلف الكنبة الرئيسة التي يجلس عليها صدام عادة في صالة الجلوس الكبرى. اغتاض الطاقم الامني كثيراً الى درجة حاول البعض من افراده حفر فجوة في الحائط لنزع تلك الاجهزة لكن صدام اكتفى بنقل الملاحظة الى الوزير المصري المنتدب لمرافقته خلال تنفيذ برنامج الزيارة فتلقى اعتذاراً وافهم ان الاجهزة لم توضع له خصيصاً وانها من بين التركيبات القديمة. ومع اعتبار الموضوع منتهيا الا ان صدام واعضاء الوفد كانوا حذرين في الكلام كي لا يساء فهم كلمة في فترة ازدهار العلاقات العراقية المصرية التي كان يطبعها الوئام والتعاون.
وعقب زيارة ضريح المغفور له جمال عبد الناصر ووضع اكليل من الزهور عليه، طلب صدام من التشريفات المصرية ان تجلب له صاحب المقهى الذي كان يرتاده في القاهرة في اثناء فترة لجوئه اليها. عقب فشل محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في بغداد 1959. وكان هدف صدام من ذلك تكريم الرجل على العناية به عندما كان احد زبائن المقهى الدائمين.
ويبدو ان مضي سنوات عدة على مغادرة صدام القاهرة وعودته الى بغداد، لم يسهل تحديد مكان ذلك المقهى الواقع في منطقة مكتظة في قلب القاهرة التي تغص بعشرات المقاهي الشعبية ما ادى الى استقرار الرأي على طريقة افضل لتحديد المكان، حيث ارتؤي مسير الموكب الرسمي للوفد بسياراته العديدة ومركبات الامن المصرية في شوارع ضيقة نسبياً حيث استطاع صدام الاشارة الى المقهى المقصود وكان الوزير المصري المرافق لصدام جالساً بجانبه.
وبعد مضي بضع ساعات من عودتنا الى قصر الضيافة جلب رجال الامن المصريون صاحب المقهى المشار اليه، وكنا جميعا جالسين في الصالة الكبرى، فتوجه الرجل الى صدام بخطوات هادئة. كان طويل القامة يرتدي الزي المصري الشعبي وعلى وجهه علامات الوقار. نهض صدام من مقعده ورحب بصاحب المقهى بحرارة واصر ان يجلس بجانبه على الكنبة الرئيسة في الصالة، لكن الرجل المسكين لم يكن يتصور حتى في الاحلام انه سيدخل يوما الى قصر ضيافة ويلتقي مع زبون كان يرتاد مقهاه لقضاء الوقت ثم اصبح بعد نحو عقد من الزمن الرجل الثاني في قيادة دولة. ولم يكن يصدق ان ما كان يجري امامه هو الواقع بعينه، فظل حذرًا متأنياً لا يتكلم الا اذا اضطر للجواب عن سؤال او استفسار. ثم جيء بأقداح الشاي، وامتنع صاحب المقهى في البداية ان يتناول فنجانا احساسا منه انه رجل بسيط ودون الظرف البروتوكولي العالي الذي وقع فيه. الا انه تناول فنجان الشاي ووضعه على الطاولة بعد ان طلب منه صدام التناول، ولا اذكر ان كان شرب منه قطرة واحدة.
المهم ان صدام سأله ان كان يتذكره، فأجاب بالإيجاب، ثم سأله عن سبب الامتناع عن الكتابة اليه ولو رسالة قصيرة، فجاء الجواب جامعا بين البساطة والسذاجة، اذ قال: يا سيدي لم اكن اعرف عنوانك، فابتسم الجميع لجوابه الطريف.
بعدها اشر صدام لمرافقه الخاص فأحضر ضرفا مغلقا فيه نقود، وهي عادة الفها العراقيون، قدمه صدام لصاحب المقهى فامتنع عن تسلمه. ولم تنفع محاولات صدام الا بعد ان طلب الوزير المصري من صاحب المقهى تسلم المظروف، عندها تسلمه وابقاه في يده حتى قام صدام والاخرون في وداعه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة