جورج سوروس
رئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ورئيس مؤسسة المجتمع المفتوح
يبدو أن الواقع الاقتصادي بدأ يلحق بركب الآمال الزائفة التي حَدَت العديد من البريطانيين. فقبل عام واحد، عندما صوتت أغلبية ضئيلة لصالح انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، صدق الناخبون وعود الصحافة الشعبية ووعود الساسة الذين دعموا حملة الخروج بأن خروج بريطانيا لن ينتقص من مستويات معيشتهم. والواقع أنهم في غضون العام تمكنوا من الحفاظ على تلك المستويات من خلال زيادة ديون الأسر.
وقد نجح هذا لبعض الوقت، لأن الزيادة في استهلاك الأسر حفزت الاقتصاد. لكن لحظة الحقيقة بالنسبة لاقتصاد المملكة المتحدة تقترب بسرعة. وكما تُظهِر أحدث الأرقام التي نشرها بنك إنجلترا، فإن نمو الأجور في بريطانيا عاجز من مواكبة التضخم، ولهذا بدأت الدخول الحقيقية تنخفض.
ومع استمرار هذا الاتجاه في الأشهر المقبلة، سوف تدرك الأسر قريبا أن مستويات معيشتها آخذة في الانخفاض، وأنها مضطرة إلى تعديل عاداتها في الإنفاق. وسوف تزداد الأمور سوءا عندما تدرك الأسر أيضا أنها أصبحت مثقلة بالديون وأنها لابد أن تعمل على تقليص مديونياتها، وهذا يعني بالتالي المزيد من خفض الاستهلاك الأسري الذي كان يدعم الاقتصاد.
وعلاوة على ذلك، ارتكب بنك إنجلترا الخطأ نفسه الذي ارتكبته الأسرة المتوسطة: فقد استخف بتأثير التضخم، وسوف يحاول الآن اللحاق من خلال زيادة أسعار الفائدة بطريقة مسايرة للدورة. ومن شأن هذه المعدلات الأعلى أن تجعل سداد ديون الأسر أكثر صعوبة.
الآن، يقترب البريطانيون بسرعة من نقطة التحول التي تميز كل الاتجاهات الاقتصادية غير المستدامة. وأنا أشير إلى نقطة التحول هذه بوصف «الانعكاسية» ــ عندما يشكل كل من السبب والنتيجة أحدهما الآخر.
يتعزز الواقع الاقتصادي بفِعل الواقع السياسي. والحقيقة هي أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يحمل الخسارة لكل الأطراف، فهو ضار بكل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي. الآن، لا يمكن التراجع عن استفتاء الخروج البريطاني، ولكن بوسع الناس أن يغيروا آراءهم.
ومن الواضح أن هذا ما يحدث الآن. فقد أخفقت إلى أبعد حد محاولة رئيسة الوزراء تيريزا ماي تعزيز موقفها التفاوضي من خلال إجراء انتخابات مبكرة: فخسرت أغلبيتها البرلمانية وخلقت برلمانا معلقا (حيث لم يتمكن أي حزب منفرد من تأمين الأغلبية).
كان السبب الأساسي وراء هزيمة تيريزا ماي عثرتها عندما اقترحت أن يدفع المسنون جانبا كبيرا من تكاليف رعايتهم الصحية من مواردهم الخاصة، وهي عادة قيمة المساكن التي عاشوا فيها كل حياتهم. وكان في «ضريبة العته» هذه، كما باتت تُعرَف على نطاق واسع، إهانة شديدة لجمهور الناخبين الأساسي لحزب المحافظين، أو كبار السن. فامتنع كثيرون منهم عن التصويت، أو صوتوا لصالح أحزاب أخرى.
وكانت المشاركة المتزايدة من قِبَل الشباب أيضا من العوامل المهمة التي ساهمت في هزيمة ماي. فقد صوت العديد منهم لصالح حزب العمل احتجاجا، وليس لأنهم كانوا يريدون الانضمام إلى نقابة عمالية أو لأنهم يؤيدون زعيم حزب العمل جيريمي كوربين (برغم أن أداءه كان مثيرا للإعجاب بنحو غير متوقع طوال الحملة الانتخابية).
يتعارض موقف شباب بريطانيا من السوق المشتركة تماما مع موقف ماي وأنصار الخروج البريطاني «العسير». فالشباب حريصون على إيجاد وظائف مجزية، سواء في بريطانيا أو أي مكان آخر في أوروبا. وفي هذا الصدد، تتفق مصالحهم مع مصالح سيتي أوف لندن، حيث يمكنهم العثور على بعض هذه الوظائف.
وإذا كانت ماي راغبة في البقاء في السلطة، فيتعين عليها أن تغير نهجها في التعامل مع مفاوضات الخروج البريطاني. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنها على استعداد للقيام بذلك.
ومن خلال التعامل مع المفاوضات التي تبدأ في التاسع عشر من يونيو/حزيران بروح توفيقية، ربما تتمكن ماي من التوصل إلى تفاهم مع الاتحاد الأوروبي حول الأجندة والموافقة على الاستمرار في عضوية السوق المشتركة لمدة طويلة بالقدر الكافي لتنفيذ كل الأعمال القانونية المطلوبة. وسوف يكون في هذا عون كبير للاتحاد الأوروبي، لأنه يؤجل اليوم المشؤوم عندما يخلق غياب بريطانيا ثغرة هائلة في ميزانية الاتحاد الأوروبي. وهو ترتيب مربح للجانبين.
لن يتسنى لتيريزا ماي أن تأمل في إقناع البرلمان بالموافقة على جميع القوانين التي يجب أن تكون جاهزة للعمل بها بمجرد اكتمال محادثات الخروج وانسحاب بريطانيا من الاتحاد، إلا من خلال سلوك هذا المسار. وربما تضطر إلى التخلي عن تحالفها غير المدروس مع الحزب الديمقراطي الاتحادي في أولستر والانحياز بنحو أكثر توكيدا إلى صف المحافظين في اسكتلندا، الحريصين على نسخة أكثر اعتدالا من الخروج البريطاني. وسوف يكون لزاما على تيريزا ماي أيضا أن تكفر عن خطايا المحافظين في بلدية كنسينجتون في لندن في ما يتصل بحريق برج جرينفيل الأسبوع الفائت، حيث فقد ثلاثون شخصا على الأقل، وربما عدد أكبر كثيرا، حياتهم.
إذا احتضنت تيريزا ماي هذا البرنامج، فسوف تتمكن من مواصلة قيادة حكومة أقلية، لأن لا أحد قد يرغب في أخذ مكانها. وسوف يستغرق اكتمال خروج بريطانيا خمس سنوات في الأقل، وخلال ذلك الوقت سوف تعقد انتخابات جديدة. وإذا سار كل شيء على ما يرام، فربما يرغب الحزبان في الزواج مرة أخرى، حتى قبل أن يقع الطلاق بينهما.
الخروج البريطاني بالمقلوب
التعليقات مغلقة