هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 9
الفصل الرابع
التدريب على المشاريع الكبرى في المملكة المتحدة
عبدالكريم قاسم ينهي عقد مؤسسة دوكسيادس
حياتنا في انكلترا
مع كل تلك النشاطات العلمية والهندسية النظرية والتطبيقية ، فإن حياتنا انا وزوجتي في انكلترا كانت تجري طبيعية ، ونمارس هواياتنا واهتماماتنا وعلاقاتنا مع الاصدقاء بشكل كامل في عطل نهايات الاسبوع . كنا نحضر بصورة مستمرة الحفلات الموسيقية لموسيقيين عالميين في قاعات لندن الكبيرة ، او المسارح التمثيلية . وكان بالقرب من منطقة سكنانا مسرح محلي اسمه ( مسرح هامر سمث ) ، تقدم علية فعاليات فنية مختلفة ، منها موسيقية ومنها تمثيلية ومنها استعراضية ، كنا نحضرها باستمرار . كما ان ما وفرناه من مبالغ مكنتنا من شراء سيارة بعد مرور سنة من بقائنا في لندن . وبهذه السيارة تجولت مع زوجتي واصدقائي في مختلف مناطق لندن والريف البريطاني والمدن الاخرى .
كان من اصدقائي الاستاذ خالص عزمي ، وهو اديب وكاتب متطلع لتعلم اللغة الانكليزية وآدابها ، قدم الى لندن للعمل في دائرة الملحق الثقافي في السفارة العراقية . وفي احدى الامسيات رافقنا هو وصديقنا اسامة خليل من موظفي السفارة بسيارتي لحضور مسرحية لشكسبير . وقبل وصولنا الى مدينة Stratford Upon Avon ) )، وهي مدينة الشاعر الانكليزي الكبير شكسبير ، سالني عزمي : هل اعرف ماهي التمثيلية التي سنحضرها الليلة ، قلت له : لقد حجزنا البطاقات من لندن ، والتمثيلية هي ( (As you like it لشكسبير .. اجابني : كيف يعرفون ما احب من تمثيليات ؟ ، ضحكنا على هذا وشرحنا للأخ خالص عزمي ان اسم التمثيلية هو ذلك وشرحنا له خلاصة التمثيلية ومغزاها !
حضرت احدى مسرحيات برناردشو الاديب الايرلندي الكبير ، مع الدكتور فاضل يوسف كمال ، وكان قد قدم الى لندن لاكمال دراسته للحصول على شهادة تخصص ، وكان مطلعا في بغداد على الاعمال الادبية والفنية لهذا الكاتب الساخر ، وكثيرا ما كان يردد ان اطلاعه هذا جاء عن طريق الكتب (Through books) . كانت مسرحيات برناردشو تتضمن الكثير من العبارات اللاذعة الساخرة ، مما يثير الضحك لدى الحاضرين ، وقد ضحك الجمهور على احدى العبارات ، واذا بالدكتور فاضل يبدي انزعاجه ، واخذ يقول بصوت عال : لا .. لا .. لا ..انا استغرب ان هذا لا يثير الضحك ! فهمست في اذنه : ان لغة المسرحية انكليزية والجمهور انكليز ، ارجو ان لا تقل انهم لم يفهموا الكلام .
اعتاد موظفو شركة ومبي ان يقيموا حفلة عامة بمناسبة ليلة رأس السنة تتضمن فقرات موسيقية وتمثيلية ورقص وغيرها ، وقرر القائمون على الحفلة ان يكون العمل المسرحي لهذه الليلة عن مؤسس الشركة جورج ومبي ، وكيف بدأ اعماله وكوّن بجديته ونشاطه شركته العملاقة ، ولم امتنع عن المساهمة في ذلك العمل ، غير اني استغربت عندما اجمع الممثلون على ان اؤدي أنا دور جورج ومبي نفسه ، وهو دور رئيسي في المسرحية . لم يكن علي الا ان احفظ النصوص الخاصة بي والبس الملابس المشابهة لملابس رئيس الشركة آنذاك ، وقد مثلت الدور بكل كفاءة واقتدار ومرح ، على الرغم من بعض الاغلاط اللغوية التي ارتكبتها على المسرح .
لقد قضيت اياما جميلة في شركة ومبي ، مفعمة بروح العمل المخلص والبحث والتتبع والاطلاع ، والعلاقات الطيبة ، لا يمكن نسيانها مهما حييت . وقبل انفكاكي من الشركة بأيام بعد قضاء سنتين معها ، لأول مرة طيلة فترة بقائي في الشركة ، طلبني رئيسها لمقابلته . استقبلني بكل حفاوة وترحاب واستعرض معي فترة العمل التي قضيتها في شركته ، ثم شكرني واطرى على الاعمال التي شاركت في انجازها ، فقابلته بالشكر للجهود التي بذلت في سبيل تدريبي وتوجيهي وتحقيق الهدف من ايفادي الى المملكة المتحدة . قال لي : سأعرض عليك شيئا ما ، وارجو ان تفكر فيه وتقبله .. نحن كشركة ومبي ، نرغب في ان تقبل ان تبقى في شركتنا وتعمل معنا ، ونحن مستعدون للتعاقد معك بشروط جيدة . اجبته بدون تردد : كلا لأنني انا موظف لدى حكومتي التي ارسلتني للتدريب والتعلم ، وهي تنتظر عودتي للعمل في خدمة وطني .. وليس من اللائق ان اوافق على عرضكم لأنه مخيب لأمل حكومتي ..ان عودتي الى العراق ستساعد على تحسين نوعية المهندسين العاملين مع الشركات العالمية ، وقد تتاح الفرصة لي ان اكون مشرفا على اعمالكم في بلدي ، وسيكون من المفرح ان تجدوا من يتعامل معكم في العراق بشكل مهني سليم . شكرني وودعني الى الباب ، وبهذا انهيت مهمتي في المملكة المتحدة.
العودة الى مجلس الاعمار – مصلحة المصايف
بعد عودتي للعراق من الزمالة الدراسية في المملكة المتحدة ، باشرت عملي في مجلس الاعمار – مصلحة المصايف والسياحة ، بمهمة وضع التصاميم الهندسية لأعمال تلك الدائرة .وكانت تضم عددا من المهندسين المدنيين العراقيين ، وبعض المهندسين الاوربيين ممن يمتلكون اختصاصات غير موجودة لدى العراقيين .
كانت النية اولاً متجهة الى تشجيع العمل السياحي في العراق ، واستغلال خطوط السكك الحديد التي تصل الى مختلف مدن العراق لهذا الغرض . فتشكلت دائرة للسياحة مرتبطة بمديرية السكك الحديدية العامة . وكان المهندس المعماري عبد الله
احسان كامل يعمل في هذه الدائرة مع مهندس معماري بريطاني ، هو (Herts) ، وقد قاما بوضع تصاميم كل من فندق سرسنك ودار الاستراحة في مصيف الحاج عمران وفندق صلاح الدين القديم والجديد فيما بعد . ثم تقرر ربط دائرة المصايف بوزارة الاعمار ، بعد ان تم نقل المهندسين العاملين هناك الى وزارة الاعمار . فالتحق بدائرتنا كل من الزملاء المهندسين عدنان الربيعي وعبد الرسول خياط وفرحان جمعة وحسين النقشبندي ، اما المهندسون الاوربيون فهم الالماني رنكل (Runkle) للتصاميم الصحية والنمساوي المعماري (هايدن Hydin) والمعماري الايطالي والآثاري (سيسا SEISA).
كانت المصايف العراقية تقع على محورين ، الاول محور لواء الموصل ( محافظتا نينوى ودهوك حاليا ) ، والمصيف الرئيس فيه هو مصيف سرسنك ، وعلى خط الموصل سرسنك توجد محطة استراحة في ( زاويته ) ، وهي منطقة جميلة بأشجار الصنوبر الكثيفة التي زرعت في عهد الملك فيصل الاول ، ومن ثم مصيف سواره توكه ، حيث شيدنا فيه فيما بعد سنة 1958 دارا للاستراحة وعدداً من الدور السياحية . وكان قد شيد في مصيف سرسنك وعلى سفح الجبل فندق كبير ، يتضمن كل وسائل الراحة ويطل على وادٍ اخضر عظيم غني بمزارعه ويطل على قرى عديدة منها أرادن و بامرني وانشكي . وفي هذا المصيف شيد سابقا القصر الملكي قريبا من المزرعة الملكية ، وكان الملك فيصل الثاني يقضي الصيف فيه مع اسرته وحاشيته .
اما المحور الثاني فهو مصايف لواء اربيل ، وقد شيدت مديرية السكك داراً جميلة للاستراحة للمصطافين في اربيل ضمن محطة اربيل في خط سكة بغداد – كركوك – اربيل . والطريق من مدينة اربيل الى شمالها حيث المناطق السياحية ، متموج ومتعرج ، ويرتفع ليمر بأربع عشرة دورة للصعود الى مصيف صلاح الدين ، الذي شيدت فيه مديرية السكك فندقا بسيطا جميلاً ( بيرمام ) ، يطل على الشارع الرئيس الذاهب شمالا الى مصائف اخرى مثل مصيفي شقلاوة والحاج عمران ، اضافة الى عدد من الدور السياحية الواسعة والجميلة هندسيا . وفي اثناء الحرب العالمية الثانية ، وعندما وقعت احداث حركة مايس 1941 ، نقلت الى هذا المصيف رئاسة الوزراء والعائلة المالكة بما فيها الملك فيصل الثاني ، وكان لم يزل صغيرا ، الى هذه المنطقة ، بعيدا عن الاحداث الخطيرة ببغداد .
تقرر في ذلك الوقت ان يشيد مستشفى في مصيف صلاح الدين الذي يرتفع عن سطح البحر بنحو 900 م ، وتمت المباشرة بأعمال البناء ، الا انه واثناء فترة الانشاء تم تعديل تصميمه ليكون فندقا .كما تم تشييد سوق ومقهى وجامع في هذا المصيف المهم . وفي مصيف شقلاوة شيدت دار استراحة ( خان زاد ) من قبل مديرية السكك ، تطل على بساتين المنطقة الخلابة ، وشيدت اخرى في نهاية هذا الطريق بعد شقلاوة وبعد اختراق وادي حرير ومرتفعات سبلك ومضيق كلي علي بيك وقرية رانية التي جعل الجيش البريطاني فيها احد معسكراتهم اثناء الحرب العالمية الثانية . وفي جوار جبال كردستان الجميلة وعلى بعد كيلو مترين من الحدود العراقية الايرانية ، شُيدت دار استراحة جميلة على سفح جبل في منطقة الحاج عمران الذي تكسوه الثلوج سنوياً شهور عديدة.
وهنا اود القول بان منطقة كردستان كما كانت سابقاً متميزة بطيبة سكانها من الاكراد وبساطتهم وكرمهم المتناهي ، وهو امر متماشٍ مع الطبيعة الجميلة الخلابة من جبال شاهقة ووديان خضراء تعج بثروة نباتية وحيوانية كبيرة . وتكاد قراها ان تكون حدائق جميلة ، غنية باهلها وأخلاقهم الحميدة ، وحرفهم البسيطة المناسبة لبساطة الحياة فيها . وسكان هذه المناطق والقرى من مختلف الملل والاديان والقوميات ، عاشوا منذ القدم حياة التسامح والمؤاخاة والتعايش الانساني . تمر بهذه المناطق فترى دور العبادة المختلفة ومنها الاديرة الغارقة بالقدم وعلى الجبال كدير ” ربان هرمز ” القريب من مدينة القوش ودير ” السيدة ” ودير ” مارمتي ” والقريب من مدينة الشيخان ” ومزار اليزيدية ” الشيخ عادي ” ، ومنها ما يعد من الابنية التاريخية القديمة . ان زيارة تلك المناطق تُقدم ، فضلا عن متعة الاصطياف لزائرها دروسا في التعايش المثالي بين الاديان والقوميات .
عندما نُقل ارتباط مديرية المصايف من السكك الى وزارة الاعمار ، اضيفت كلمة السياحة الى اسمها ليكون مديرية المصايف والسياحة العامة ، ورأسها مديرها العام السيد احمد شوقي الحسيني وهو احد ضباط الجيش القدامى الذي درس بعض دروس الهندسة في الجيش العثماني ، ثم التحق بالملك فيصل عند مجيئه العراق ، وعين بوظائف فنية وهندسية مختلفة ، وكان قسم الهندسة من اهم اقسام هذه المديرية ويرأسه المهندس عدنان الربيعي ، ووُجهت اليّ مسؤولية شعبة التصاميم . وفي عام 1957 كلفنا بالإشراف على تنفيذ وادارة منشآت مصايف اربيل لتكون برئاسة المهندس عبد الرسول خياط ومصايف الموصل برئاسة المهندس فرحان جمعة .
استمرت عمليات تشجيع الحركة السياحية في العراق ، والاستغلال الامثل للمنطقة الشمالية اي كردستان حاليا ، لذا وضعنا خطة لإفراز بعض جوانب مصيف صلاح الدين ولبيع بعض الاراضي في المصايف بأسعار مغرية الى موظفي وزارة الاعمار والمواطنين ، وتشجيع حركة البناء والسكن في هذه المصايف في فصل الصيف . وقد تم تثبيت مايقرب من الف قطعة ارض ، وتحديد شوارعها على اذرع جبل صلاح الدين . وكنا ننتظر تسجيلها باسم مستحقيها عندما قامت ثورة تموز 1958 ، فتأجلت العملية حتى وقت آخر . و باشرنا بوضع التصاميم والمخططات لإنشاء اعداد اخرى من المناطق السكنية بعد زيادة الطلب عليها في المصايف العراقية مثل مصيف صلاح الدين ( 50 بيتا ) وسرسنك (20 بيتا ) وسوارتوكا (20 بيتا ) . وتم تقسيم اراضي ذراع جبل صلاح الدين الممتد الى منطقة ( سره رش ) القمة السوداء ، حيث شيدنا كازينو على قمة الجبل يطل على عدد من الوديان الجميلة .
توسعت اعمال المشاريع السياحية في تلك الفترة ، وبدأنا نفكر ونعمل على تطوير مناطق سياحية قريبة من المواقع الاثرية المشهورة في مختلف انحاء العراق ، فوضعنا تصميماً جميلاً لكازينو سياحي في مدخل مدينة بابل الاثرية ، صممه المهندس النمساوي( هايدن ) ، كما أنشأنا كازينو تشرف على شلالات كلي علي بيك ، وخططنا عددا من المناطق السياحية في منطقة الحضر الاثرية ، والاهوار في منطقة الجبايش . واستمر العمل على هذه الوتيرة المتصاعدة حتى قيام ثورة تموز 1958 .
كتب الكثير عن احداث ثورة 14 تموز 1958 وتأثيراتها على الواقع العراقي وحركة النهوض الاقتصادي والعمراني في العراق الذي اخذت معالمه تبرز منذ منتصف الخمسينيات . ولا اريد ان اكرر الحديث ، فقد ادركه العراقيون بسهولة ! . بما له صلة بالموضوع ، فان قرارا قد صدر بإحالة المدير العام لمديرية المصايف والسياحة على التقاعد ، وتعيين السيد رشيد مطلك في مكانه ، وهو احد الاصدقاء المقربين لقائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم . وقيل ان عبد الكريم قاسم كان يرتاد مطعمه الفاخر ( مطعم شريف وحداد ) الواقع عند رأس جسر الاحرار في منطقة حافظ القاضي . وتوطدت العلاقة بينهما ، حتى ان مطلك اصبح صلة الحزب الوطني الديمقراطي بحركة الضباط الاحرار التي يقودها قاسم قبل قيام الثورة . ولم يحدث تغييرٌ كبيرُ في اجهزة مديريتنا مع التغيير الكبير في نظام الحكم ، ولكن الجو العام الذي يسود المجتمعات بعد التغييرات الكبيرة يؤثر باتجاهين ، الاول هو الركود العام في الحركة الاقتصادية وتراجع النشاط السياحي لفترة من الزمن ، والثاني هو محاولة النهوض بالنشاط الاقتصادي من قبل قادة التغيير لإثبات حسن النية تجاه المواطنين . ومن هذا المنطلق وضعت خطة واسعة من قبل مجلس الاعمار الذي تم تجديده للنهوض بنشاط الاصطياف والسياحة ، وتقرر زيادة التخصيصات المالية ، والمباشرة بتهيئة عدد اكبر من المرافق السياحية من فنادق ودور واستراحات .
وذات يوم اُستدعيت لمواجهة المدير العام السيد رشيد مطلك ، فاخبرني بأنه وقع عليَ الاختيار لأقوم بأعماله بالوكالة ، طيلة سفره الى الاتحاد السوفييتي ، مع وفد اقتصادي لتوقيع اتفاقية التعاون بين البلدين . اجبته باني قد اكون اصغر المهندسين في مديريته ، ويوجد من هو اقدم مني خدمة وخبرة ، وسيكون الامر محرجا نوعا ما . قال لي : لا يمكنني ان اعين من يقوم مقامي ما لم اكون واثقا منه .. انك ستقوم بأعمالي لحين عودتي.