مانعات الذكاء

وسط شروط حياة غاية في السوء، وبعد مشوار مرير من الهزائم السياسية والحضارية برفقة أكثر السلطات السياسية والآيديولوجية تخلفاً وانحطاطاً؛ ما زالت الأرقام والمعطيات التي تتمخض عنها الدراسات والاستقصاءات تضع سكان هذا الوطن القديم على رأس قوائمها الصادرة حول مستوى الذكاء بين شعوب المنطقة. هذا هو حالنا ونحن وسط كل هذه المناخات والمنظومات المعادية لكل ما له علاقة بالذكاء والاستعمال المثالي لقدرات العقل الجبارة، فكيف يكون الحال؛ لو تمكنا من التحرر من هذه النظم والمنظومات المعادية للعقلانية وموروثاتنا الفطرية التي أشارت لها تلك التقارير وذلك التأريخ العريق لسكان أقدم مستوطنة بشرية؟
إن ظهور داعش وما يتجحفل معها من عقائد وسرديات، وما تمثله من قيم معادية للذكاء والفطرة الإنسانية السليمة، يؤكد حجم تسلل الضد النوعي للعقل والذكاء وسط شعوب عرفت بحيويتها العقلية والتي دونها بدقة الجاحظ عندما قال: (إن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح..) وهذا ما توقف عنده كثيرا الدكتور علي الوردي أي (النزعة الجدلية) لدى العراقيين. هذه النزعة تشكل روح ما يعرف اليوم بـ (اقتصاد المعرفة) الرافعة الأساس لاستقرار المجتمعات والدول الحديثة وازدهارها، وهذا ما يجب أن يعيره العراقيون اهتمامهم الأكبر، هذا هو الرأسمال الحقيقي الذي لا ينضب لا النفط والغاز وبقية مخلفات الصدفة الجيولوجية الذي جعلت الديناصورات تتفسخ على أراضينا. إن الانتصار العسكري على داعش وأمثالها ليس بمقدوره لوحده انتشالنا من محنتنا المتواصلة مع سدنة الغباء ولجم الضمائر والعقول، ليس غير المنازلة الحاسمة في ميدان الفكر وإطلاق الحريات والحقوق والقدرات الجبارة للعقل العراقي، عبر ترسيخ الديمقراطية بروحها وفلسفتها لا بآلياتها فقط كما يتمنى الإسلامويون؛ من بمقدوره الانتصار لقضايانا العادلة وبالتالي إعادة الروح والتوازن للشخصية العراقية.
لقد كلفتنا هذه الشبكة المعقدة من (مانعات الذكاء) الكثير من المرارات والأهوال، وما زالت حتى هذه اللحظة تسير بنا نحو المجهول، حيث يعاد تعبئة العقول بـ (تبن) العقائد الجاهزة والخطابات الشعبوية التي عفا عليها الزمن. برنامج شامل ومتصل الحلقات يبدأ من الأسرة الى المدرسة العراقية، والتي تحولت في العقود الأخيرة الى ما يشبه الاصطبلات المتخصصة بإعادة إنتاج وتدوير ذلك (التبن) التعليمي والمعرفي، حيث القدرة على الحفظ والدرخ هي معيار التفوق والذكاء، مناهج وسياسات تعليمية لا تفقه شيئاً عن رأسمال العراقيين (النزعة الجدلية) وتجلياتها التي انتشلت سلالات بني آدم من عصور الانحطاط والذل والهوان؛ أي العقل النقدي والفضول المعرفي، والتي تتقصى أخباره وتقتفي آثاره بلا هوادة، كل المفارز التابعة لشبكة مانعات الذكاء. هذا هو الميدان الحقيقي للصراع بين القوى الظلامية من شتى المنحدرات والرطانة والأزياء، والتي لن تكون داعش آخر العنقود فيها، والقوى التي تنتصر لحرية الإنسان وحقوقه وكرامته، عبر تحرير العقول من كل هذه الدوغمائيات والتحجر وشراهة المصالح الفئوية الضيقة. في ظل موازين القوى الحالية والسطوة المتعاظمة لمعسكر اللاعقلانية على شتى جبهات النزاع العبثي، يبدو الأمر عسيرا وملتبساً، لكنه يبقى الخيار المجرب والوحيد لتجنب مصير الالتحاق بركب السلالات التي سبقتنا على طريق الديناصورات…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة