كل من يتابع نوع اهتمامات سكان هذه البلاد، سوف يتوقف لا محالة أمام ذلك الشغف الواسع لعدد كبير منهم بالدراسات العليا والبحث وكتابة الأطاريح، لا سيما في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية. نتاج ذلك العنفوان والفضول “المعرفي” جعلنا نمتلك جيش عرمرم من حاملي الألقاب العلمية، لكن عندما نتفحص الأثر الفعلي لكل تلك الكثبان من الجهد المبذول في سوح العلم والمعرفة؛ نجد أنفسنا نردد مع الإمام علي ما قاله في الكوفة زمن محنته: (إني لأفتح عيني حين أفتحها/ على كثير ولكن لا أرى أحدا). غالبية تلك الكتابات لا تتجرأ على الاقتراب من الملفات والقضايا الحيوية في حياة العراقيين، وعلل هذه الدوامة من الهزائم والانتهاكات الفظيعة التي لم تخفت الى يومنا هذا، ليس هذا وحسب بل أن الكثير منها أصبح متخصصاً بتزويق الجريمة والترويج لأربابها، إذ يتم الاحتفاء بالقتلة والمجرمين الكبار، ولا سيما حيتانهم المتخصصة في مجال التجييش والتحريض ونشر قيم الكراهة والتشرذم والأحقاد. بعد أن قطعنا مراحل مريرة على هذا الطريق، وصلنا الى حقبة عصابات داعش التي ارتقت بالجريمة الى مستويات لم تعرف من قبل، يمكن التعرّف على جزئها الظاهر من خلال الأرقام التي دونتها التقارير الدولية والمحلية عن ملايين الضحايا والمشردين والنازحين، وما خفي كما يقول المثل “كان أعظم” إذ التبعات النفسية والقيمية أشد فتكاً من الأضرار المكشوفة.
هذا الوباء الفتاك (الإجرام) وسدنته والقوى والمصالح والعقائد التي تقف خلفه؛ ما زال بمقدوره إنتاج فصولاً لا تقل بشاعة عما سبق، لأن سردياته القاتلة وسدنته الكبار لم يتعرضا لأي مواجهة جدية، تحد من قدرتهم على إعادة تدوير بضائعهم المميتة. وهذا ما كشفت عنه نشاطات المنابر الوعظية والإعلامية مؤخراً، حيث الخطابات التحريضية نفسها مع قليل من الملطفات والمنكهات المناسبة لإكراهات وضع ما بعد كسر ظهر داعش وقواه الضاربة. وعندما نعود للماضي القريب قليلاً، نجد أن المجرمين ومن ارتكب أبشع الانتهاكات؛ قد ظلوا أحرارا ولم يتعرض الكثير منهم للمقاضاة والعقوبة التي يستحق، وما مثال جلاوزة الحرس القومي، من الذين ارتكبوا أبشع الجرائم بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط من العام 1963 إلا مثال على ذلك الخلل البنيوي المسكوت عنه في هذا الوطن المنكوب، عندما تسللوا بكل يسر الى السلطة مجدداً العام 1968. وفي وضعنا الراهن يمكن التعرف على ذلك بما تمخض عن إحدى أبشع جرائم عصرنا (مجزرة سبايكر) حيث مرت ثلاث سنوات عليها من دون أن تصل لجان التحقيق الى شيء مغاير عن “الثوابت” التي أشرنا اليها، والمتخصصة في تقنية “إلقاء القبض على الضحية وإطلاق سراح الجاني”.
مع مثل هذه الاستباحات الشاملة لقواعد العيش الآمن للمجتمعات الحديثة، حيث مؤسسات الدولة عاجزة عن القيام بواجباتها في فرض سلطة العدالة والقانون، أومتواطئة مع من ينتهك هذه الحقوق (قوانين العفو العام وغيرها من التشريعات)؛ لا يمكن انتظار حصول تحولات جدية وإصلاحية في بنية الدولة والمجتمع. فتح مثل هذه الملفات وتسليط الضوء عليها، تقع على عاتقنا جميعاً ولا سيما المنتسبين لشريحة الانتلجينسيا والإعلام ومراكز الدراسات والبحث العلمي والعاملين في مجال القانون والقضاة وبقية التخصصات المهتمة بأمر العدالة وترسيخ سلطة القانون. من دون وضع (سدنة الإجرام) في مكانهم الذي يستحقونه (خلف القضبان)؛ يصبح الحديث عن عراق جديد وديمقراطي “حديث خرافة”..
جمال جصاني
سدنة الإجرام
التعليقات مغلقة