هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 7
الفصل الثاني
الوظائف الاولى
مرحلة اكتشاف الذات
أمانة العاصمة للمرة الأولى – معاون مهندس في شعبة طرق الكرخ
كانت امانة العاصمة في حاجة دائمة للمهندسين لتنوع اعمالها الهندسية، وفي عام 1953 كان السيد مظفر احمد امينا للعاصمة، وهو من كبار موظفي الدولة دراية وادارة، وصلته بوالدي رحمه الله كانت طيبة. فقررت والدتي ان تكلمه لتعييني في الامانة، فوافق على ذلك وقرران تكون دائرة الطرق او الشعبة الثانية مقرا لعملي، ونسبت الى شعبة طرق الكرخ.
ولم تكن اعمال الطرق الرئيسة يومذاك في امانة العاصمة تتعدى تبليط شارع رئيس تقوم به شركة لبنانية (CAT) ، وكانت الاعمال تتضمن ايضا مد انابيب شبكة مياه الامطار في الطرق الرئيسة لتصب في نهر دجلة. واما الطرق الفرعية فتوضع في وسطها سواقي وسطية من القطع الكونكريتية التي تصف الواحدة تلو الاخرى، لتصب مياهها في الشوارع الرئيسة. اما الطرق الضيقة داخل المحلات والاحياء السكنية، فكانت تؤسس طرقها بعد تحديد المناسيب والارتفاعات النهائية للطرق وتنظيفها من الاتربة الزائدة. توضع طبقات من التراب وحدلها جيداً لحين الوصول الى الارتفاعات المناسبة، ثم توضع طبقة من الطابوق المرصوف بارتفاع 11 سم وتملأ الفراغات بين الطابوق بكسر الطابوق ثم تحدل لتكوين طبقة صلبة بعد وضع السواقي الوسطية، اما الطبقة النهائية فتكسى بطبقتين من القير المستخرج من مدينة هيت حيث يسخن الى درجة السيولة، ويقوم العمال بنقله يدويا بواسطة حاويات خشبية كبيرة ترش بالرمل لمنع التصاق القير بالحاوية ومن ثم يقوم الاسطة بفرش القير بطبقة سمكها نحو 2 سم عن طريق حادلة يدوية خشبية وبعد ذلك وضع طبقة اخرى لاعطاء الطريق شكله النهائي . كانت هذه الطريقة متبعة في جميع انحاء العراق عند تبليط الشوارع
وفي الشوارع الرئيسة التي تمر عليها مركبات ثقيلة، فكانت طبقة الطابوق توضع بسمك 24 سم أي على ارتفاع الطابوقة عموديا. ولم تكن انذاك طرق الاكساء بالكونكريت الاسفلتي معروفة بالعراق تقنيا او ميكانيكيا، واعتقد ان اقتصاديات العراق بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن مواتية لادخال تلك التقنيات لحين دخولها عن طريق الشركات الاجنبية التي باشرت العمل مع وزارة الاعمار.
وفي عهد وزارة نوري السعيد لسنة 1953 وبتنسيق بين رئيس الوزراء وامين العاصمة السيد عبد الله القصاب الذي حل محل السيد مظفر احمد، خصصت مبالغ كافية لتشغيل العمال العاطلين عن طريق تنفيذ منهج تبليط الشوارع والأزقة الداخلية لجميع مناطق بغداد على ان يكون العمال العاملون في تلك المحلات من ابنائها، وذلك بالتنسيق مع مختاري المحلات البغدادية. واتذكر وانا في الامانة يوم دعانا رئيس الهيئة الفنية السيد ادور رسام، نحن مهندسي الامانة جميعا، وبلغنا بقرار الامين بتبليط شوارع وازقة بغداد وتشغيل سكان بغداد العاطلين عن العمل باي عمل مناسب في هذا المشروع، بغض النظر عن سني العمر، فالهدف واحد: التبليط والتشغيل. وقد اختارني ادور رسام من بين جميع المهندسين القدامى والجدد في امانة العاصمة لاكون مسؤولاً عن المشروع في جانب الكرخ من محلة الجعيفر الى الكريمات. استمر المشروع لاشهر وكانت نتائجه جيدة هندسيا واجتماعيا، فقد شعر المواطنون ان الدولة اخذت تهتم بامرهم بعد وصول عوائد النفط وفق الاتفاقيات الجديدة مع الشركات النفطية العاملة في العراق.
لم يكن العمل في طرق امانة العاصمة رغم جديته واهميته ليقنعني، وانا في فورة الاندفاع للعمل، فقد كانت ساعات العمل اليومي سبع ساعات فقط، لقد شعرت بطول اوقات الفراغ بلا عمل، ولم يكن ببغداد انذاك من الاعمال الهندسية مما يمكن ان اعمل بها بعد ساعات العمل الحكومية.. لذا قررت ان افاتح رئيس الهيئة الفنية لاطلب تكليفي بعمل رئيس يمكن ان يشغل وقتي اكثر وافضل، يمكن الاستفادة منه ماديا وهندسيا. واتصلت بشقيق رئيس الهيئة الفنية للتوسط لتحقيق رغبتي في العمل بمشاريع اكبر، ولم تكن تلك الاعمال يومذاك سوى مشاريع الطرق الرئيسة وتنفذها شركات اجنبية.
زرت رئيس الهيئة الفنية في داره في منطقة العلوية، وعرضت عليه رغبتي في تطوير قدراتي من خلال العمل في مشاريع اكبر،وطلبت توجيهه لي بصفته المسؤول الاول عن مشاريع امانة العاصمة. الا ان الرجل اعترض على حديثي وقال لي ان لكل عمل ثمن وله متطلباته، غير ان شعوري وبغرابه الطلب بأن ما اقدم عليه لايلبي طموحي بتطوير مهاراتي كمهندس في امانة العاصمة انذاك. ومن هنا قررت البحث عن فرصة عمل اخرى تحقق رغبتي في التركيز على اعمال تصاميم البناء، وبلا تردد راجعت شركة نفط العراق، وهي اكبر شركات النفط العاملة في العراق، ولها مشاريع هندسية كبيرة في مناطق مختلفة من العراق، والحقيقة اني اعرف الشيء الكثير عن اهداف هذه الشركة من قراءاتي في مرحلة الدراسة الاعدادية وما بعدها، وكان كتاب ( على طريق الهند ) لمؤلفه الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم من الكتب التي اهتممت بامرها، اذ كانت الاحداث السياسية والاقتصادية التي لها صلة بالاحتكارات النفطية الاجنبية تهزني من الاعماق.
علمت من ادارة شركة نفط العراق ان هناك مجالا للعمل في شركة نفط البصرة وهي شقيقة شركة نفط العراق. فقدمت طلبي، وبعد عدة مقابلات وامتحانات، وافقت الشركة على تعييني بصفة مهندس متعاقد ( STAFF ). فاسرعت وقدمت استقالتي الى رئيس الهيئة الفنية في امانة العاصمة السيد بهنام زبوني، الا انه لم يوافق عليها ووعدني بان ينيط بي اعمالاً اخرى واكبر، الا اني كنت مصرا على الالتحاق بشركة النفط، بعدما علمت بما يحققه العمل الجديد من امتيازات وصلاحيات ومخصصات. ولم انتظر البت في امر الاستقالة بشكل نهائي، فحزمت امتعتي وغادرت بغداد الى البصرة.
****
شركة نفط البصرة – الخطوة الاولى على الطريق
تجارب وخبر في حقول صحراء الرميلة وميناء الفاو لتصدير النفط
كانت شركة نفط العراق ومنها شركة نفط البصرة احدى شركات النفط الكبيرة التي تعمل في العراق، وبعد اتفاقيتها الجديدة مع الحكومة العراقية سنة (1952) اصبحت العوائد المالية مناصفة بينها وبين الحكومة العراقية. كما اخذت الشركة بتهيئة كوادر عراقية متخصصة على غرار المتعاقدين الاوربيين. وفي المقر الفني الرئيس لشركة نفط البصرة في العشار الذي يسمى ( المكينة )، اجري لي عدد من الاختبارات والمقابلات الشفوية، ثم أبلغت بأن لدي موعداً مع مدير عام الشركة السيد تيسو (Tissot)، وهو فرنسي الجنسية وعرف بشدته في العمل ويخشاه الموظفون. استقبلني بلطف وترحاب في مكتبه الفسيح، وتحدث معي بكل هدوء وبساطة، فسألني عن أحوالي الاجتماعية ووضعي العائلي وهواياتي والالعاب التي اجيدها، كما سألني عن قراءاتي والكتب التي اود قراءتها.
كنت اتوقع ان يسألني عن اعمالي السابقة والدوائر التي عملت بها، فتبادر الى ذهني ان اسأله عما اثار انتباهي حول طبيعة الاسئلة التي وجهها الي، فاجابني بلهجة انكليزية فرنسية:
مستر مدفعي.. انك ستعيش معنا ومع موظفينا الاوربيين وغيرهم، وما لم تكن تمتلك مؤهلات للعيش معهم، فانك ستواجه مصاعب مختلفة في حياتك واعمالك، وسيكون الامر اصعب اذا علمت ان عملنا في الصحارى والمناطق النائية، والألفة بين الموظفين تأتي عن طريق الهوايات الشخصية والمشتركة.
صدر امر تعييني في شركة نفط البصرة، وكنت اول مهندس عراقي يتم التعاقد معه في هذه الشركة ، ويعمل معها بصفة ( ضابط – statf )، وعين معي في اليوم نفسه المهندس فخري رحمة الله وهو من عائلة معروفة في بغداد وكان اخوه عبدالامير يعمل معاونا لمديرعام الموانئ في البصرة . وفي مايس 1953 باشرت عملي، فعملت لمدة اسبوعين في الدائرة الفنية في الشركة ( المكينة ) . ثم نسبت في حقول الزبير النفطية بصفة ( Junior Civil Eng ) ، وخصصت لي سيارة (بيك اب ) للتنقل. كانت حقول نفط الزبير تمتد لعشرات الاميال في صحراء غرب مدينة البصرة، وهي مخططة لتكون على خطوط طولية وعرضية باشكال معينية، ويبعد الخط عن الاخر مسافة ( 1.6 ) ميل وهذا الاسلوب من التخطيط ومواقع الابارعلى تقاطع الخطوط بشكل حديث وعلمي يساعد على ان يتدفق النفط من الابار بضغط متجانس وكميات متجانسة حسبما بينه لي احد مهندسي النفط في حينه . كانت اول بئر نفطية حفرت في حقول الزبير، تقع في موقع اطلق عليه ( الزبير ــ 1 ) . وفي هذا الموقع كانت جميع دوائر الحقول كالطبابة والهندسة والنفط والمخازن .كانت واجباتنا القيام باعمال الهندسة المدنية في اعمال انتاج النفط في حقول الزبير جميعها وهي الحقول التي تغطي جميع مساحات جنوب العراق. وتتضمن انشاء المباني والدور ومحطات الكهرباء والطرق ووضع السواتر الترابية حول الآبار قبل حفرها، وربط خزانات النفط الثانوية في المناطق المخصصة لها، وسواها من الاعمال الهندسية المدنية المطلوبة لتسهيل اعمال الانتاج النفطي .
نقلت اقامتي الى منطقة ( الزبير ــ 2 )، وهو عبارة عن بناء مستطيل يقع قريبا من بئر النفط، ويبعد زهاء 35 كيلو مترا عن مقر عملي، قريبا من جبل ( سنام ) الواقع غرب البئر ( زبير ـ 2 ) ويضم ست غرف نوم لاقامة المهندسين مع المرافق الملحقة، وشيد هذا البناء ليكون ضلعه الطويل مواجها لاتجاه هبوب الرياح من الجهة الشمالية الغربية، وهي رياح محملة بالرمال تهب في الشهور من حزيران
الى ايلول بسرعة كبيرة. تهب هذه الرياح حاملة معها الرمال على دار الاستراحة وتتراكم على جانب البناء الشمالي الى درجة تكون احيانا بارتفاع الشبابيك. ومن اثار ذلك ان يتعرض برج التبريد الواقع جانب البناء لتلك الرمال فتملأه، وكان علينا لزاما ان نعمل مساءً بين فترة واخرى لتنظيف البرج من الرمال وابقاء منظومة التبريد عاملة بصورة مستمرة. لقد كانت الساعة الخامسة صباحا في الصيف موعدا لانطلاق العمل اليومي في تخطيط المحاور مثلاً لأسس الأبنية ، تفاديا لهبوب تلك الرياح المذكورة مع ارتفاع درجات الحرارة بعد الساعة الثامنة. ويكون افطارنا في
الساعة الثامنة في موقع الشعيبة التي تبعد اكثر من اربعين كيلو مترا عن موقع العمل. والطريف انه عندما اصل الى المطعم في الشعيبة وارى وجهي مع النظارات من نوع (Gogells ) ذي الجوانب المغلقة ، كنت ارى وجهي وقد تحول الى لون ترابي مغطى بطبقة من الرمال الدقيقة.
كان علينا ان نعمل بصورة مستمرة وفي مواقع عديدة بين حقول النفط ، وهي اعمال مكملة لاعمال شركات عالمية متخصصة في هذه الاعمال، مثل صب جدران بئر النفط او تثقيب هذا الجدار السمنتي او ذاك وغير ذلك. كما كانت جميع اعمال حفر الابار تجري باشراف خبراء اميركيين بمساعدة عمال عراقيين حصلوا على خبرة كبيرة في هذه الاعمال. ومن التجارب المثيرة التي مررت بها هي سحب برج نفط
من منطقة معينة الى اخرى تبعد 6,1 ميلا عنها، وتتم العملية بدون تفكيك البرج أو نقله على عجلات. لذا كان علينا ازالة المرتفعات وردم المنخفضات في الممر الذي يسحب البرج عليه. كذلك عدم تفكيك خزانات النفط الخام، بل قلبها الى جانب ودحرجتها الى الموقع الجديد.
وبعد انشاء الاسس المطلوبة في الموقع الجديد للبئر، يتم رفع برج حفر بئر النفط الحالي الذي يبلغ ارتفاعه زهاء 25 مترا، بواسطة جكات رافعة واجلاسه على قاعدة ذات اربع عجلات كبيرة. وفي الوقت نفسه بربط هذا البرج باسلاك حديدية مربوطة مع ثلاث ( بلدوزرات ) من الجوانب.، ومن الامام يتم سحب البرج بواسطة ( بلدوزر ) قوية تستطيع سحب البرج الى موقعه الجديد. اما خزانات النفط وهي بقطر اربعة امتار وارتفاع ستة امتار، فتدعم من الداخل بهيكل حديدي ثم تسحب كما يسحب الطفل لعبته الاسطوانية.
ومن تجارب العمل في شركة نفط البصرة في اوائل عام 1954، عندما تسلمت ادارتي برقية من لندن تطلب اعطاء مقر الشركة الرئيس في لندن معلومات عن تحمل التربة في موقع معين من منطقة الزبير، لانشاء محطة توليد كهرباء كبيرة عليها. وقد كلفني رئيسي ان قوم بالمهمة من دون اي توجيه او ارشاد حول القيام بذلك . ولكن.. ما العمل ؟ فليس هناك أي مختبر لفحص التربة في البصرة لكي يقوم معي بالمهمة ، وعندما حاولت الاستفسار من اصدقائي المهندسين ومنهم الدكتور طارق الكاتب وجمال السلمان وامين الياسين، لم انل أي شيء مفيد، فقررت القيام بالتجربة بنفسي في منطقة الزبير (1) و ان ارجع الى كتبي وابحث عن طريقة لفحص التربة والحصول على النتائج المطلوبة. صنعت صندوقا خشبيا ذا حجم معين في معامل الشركة ووضعت تحته في محوره أنبوبا بارتفاع عمق الاساس المتوقع، وملأت الصندوق برمل معروف وزنه، وبدأنا بقياس الهبوط في اللوحة المعدنية السفلى التي تبلغ مساحتها 12×12 انج أي قدم مربع واحد. في التجربة الاولى اختل التوازن وسقط الصندوق مع الرمل ، وكررت العملية ثانية وثالثة، لكني لم اقتنع بدقة المعلومات الناتجة. وكدت اصل الى اليأس من الوصول الى ماتريده الشركة، الا اني قررت المضي في العمل ، فحفرت في موقع المحطة عشر حفر على عمق ثلاثة امتار لكل حفرة واقارن نوع الترب وطبقاتها وتجانسها مع ما موجود لدي في الكتاب المصدر الذي اعتمده، حمدت الله ان التجانس موجود، وهكذا اعتمدت على الارقام القياسية في الكتاب في تحديد قابلية تحمل التربة في تلك المنطقة الصحراوية في الزبير وابلغت رئيسي والمقر العام عن نتائج تحمل التربة .
تسلمنا الخرائط وبدأ المقاولون بالعمل، وباشرت بالاشراف على اعمالي وبعد نحو سنة ونصف باشرت المحطة بانتاج الطاقة الكهربائية، فوزعت علينا هدايا تذكارية، هي قداحات عليها صورة محطة كهرباء ( زبير ـ 1 ).
تقع منطقة الاهوار في شمال حقل نفط الزبير، وكانت النية متجهة للتوسع في الانتاج منها،ويقتضي ذلك فتح الطرق الترابية على سدة ترابية بعرض 8 امتار و اعلى من مستوى مياه الهور الضحلة، ثم تحدل هذه الطبقات وترش بالنفط الاسود المستخرج من الابار مباشرة، ثم تخلط هذه الطبقة من رمال الصحراء والنفط الخام بواسطة ( الكريدر ) وتحدل لتكون طبقة متماسكة نوعا ما، ولا تثير التراب عند مرور المركبات… غير انه بعد فترة قررت الشركة واصدرت الينا التعليمات بإيقاف جميع الاعمال في منطقة الاهوار شمال حقول الزبير ونقل الاعمال الهندسية المدنية واعمال انتاج النفط الى حقول الرميلة في الجهة الشمالية الغربية من حقول الزبير. وفي جلسة عشاء في احد الايام، ذكر لي زميلي مهندس النفط طارق ، وهو مهندس شاب لامع في ادارة انتاج النفط، ان نفط الابار التجريبية في حقول الرميلة، ثبت انه من النوعية المتميزة جدا ( الخفيف ) على عمق (11) الف قدم تحت الارض ، وله من الخواص الجيدة ما يمكن ان يشغل المحرك مباشرة !. واستمرت اعمال الهندسة المدنية في جميع حقول النفط في الزبير والرميلة ونهر عمر وسواها من المناطق النفطية. لقد كانت اعمال الشركة اعمالا كبيرة يشارك فيها المئات من المهندسين والخبراء والفنيين والعمال على مدار الساعة لاستخراج النفط وضخه بالانابيب الى ميناء الفاو، وهو الميناء الوحيد لتصدير النفط العراقي آنذاك. وكان عملي الجديد هو توجيه تشييد دور الحي السكني في منطقة البرجسية في صحراء الزبير. ومن الاعمال التي انجزناها في تلك الفترة احواض السباحة في نادي البرجسية الجديد ، واتذكر ان العمل في صب الكونكريت للمسبح استمر الى صباح اليوم التالي، ولم يكن في الموقع تلفون لاخبر زوجتي بالامر، فقد عدت في صباح اليوم التالي بعد غياب نحو ثلاثين ساعة في صحراء الزبير، وقد وجدت زوجتي قلقة مذعورة لعدم معرفتها سبب غيابي . ومنذ تلك اللحظة قررت هي عدم البقاء في البصرة والشركة مهما كان الامر. ولم تفد معها محاولات الاقناع بأن الامر استثنائي ، وطمأنتها عن الاسباب والواجب. فاضطررت الى حجز مقعد لها في الطائرة المغادرة الى بغداد عصرا. وفي المطار قبل مغادرة الطائرة بدقائق قبلت مني العذر وتفهمت الامر.