تداعيات الانسحاب الأميركي من اتفاقية باريس للمناخ

(2ـ2)
كارن أبو الخير

هناك 29 ولاية لديها بالفعل مشاريع والتزامات فيما يتعلق باستعمال الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء، والكثير منها تعطي حوافز ودعمًا للشركات التي تقلل انبعاثاتها. وتعد ولاية كاليفورنيا، ذات سادس اقتصاد من حيث الحجم على مستوى العالم، من أبرز وأهم الفاعلين في هذا المجال. فقد وضعت لنفسها هدفًا بتقليل الانبعاثات التي تتسبب في الاحتباس الحراري بنسبة 40% عن المستوى الذي كانت عليه في عام 1990 بحلول عام 2030. إضافة إلى ريادتها في المجال التكنولوجي، فهي فاعلة أيضًا على الصعيد الدولي، وهناك برامج للتعاون المشترك مع الصين في هذا المجال، وقد كان حاكم الولاية، جيري براون، بصدد زيارة الصين لحضور مؤتمر عن الطاقة المتجددة بعد أيام قليلة من إعلان قرار الإدارة الانسحاب من الاتفاقية.
وفيما يتعلق بالشركات الاميركية الكبرى، فقد أعلن عدد كبير منها عن معارضتها لقرار ترامب، وكان على رأسها شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل: تيسلا موتورز، وجوجل، وفيسبوك، وآبل، المعروفة باتخاذها إجراءات طوعية لتقليل الانبعاثات الكربونية. فمراكز تجميع البيانات التابعة لشركة فيسبوك تعمل بشكل كامل بالطاقة المولدة من الرياح، وتهدف الشركة إلى أن يصبح 50% على الأقل من كل عملياتها معتمدًا على الطاقة النظيفة والمتجددة بحلول العام المقبل (2018). أما شركة جوجل، فهي بصدد تحويل جميع عملياتها حول العالم، بما في ذلك مراكز تجميع البيانات، لتعتمد بنحو كامل على الطاقة المتجددة هذا العام (2017).
وكان من بين الشركات التي أبدت اعتراضها على الانسحاب الاميركي من الاتفاقية شركات كبرى في عالم الصناعة، مثل: جنرال إلكتريك، وجنرال موتورز، وفورد، وبيبسي، وأيضًا من أكبر الشركات في عالم المال، مثل: جي بي مورجان تشيس.
وينبع ذلك من أن كل هذه الشركات ترى أن الالتزام بمعايير تقليل الانبعاثات الكربونية يصب في مصلحتها. فعلى الصعيد الاقتصادي، فإن تكلفة الطاقة النظيفة تتناقص باستمرار، ومن جانب آخر، فإن الانفصال عن الاتجاه العالمي في هذا الإطار يضر بصورة هذه الشركات، وقد يُعرِّضها لتطبيق نوع من العقوبات المتمثلة في تعريفات جمركية إضافية -مثلا- من الدول الأخرى في إجراءات عقابية محتملة. كما أنه قد يهدد تدفق الاستثمارات الخارجية في القطاعات غير الملتزمة بالمعايير الدولية في هذا الصدد. وستضطر الشركات العالمية للالتزام بالقوانين التي تسنها دول أخرى فيما يتعلق بالانبعاثات الكربونية إذا أرادت أن تنافس في أسواقها، خاصة شركات تصنيع السيارات مثل فورد وجنرال موتورز.
وفي المجمل، فإن الشركات الاميركية قد تواجه عزوف المستهلكين والمستثمرين بسبب قرار إدارة «ترامب» السير عكس اتجاه العالم في العمل على محاربة تغير المناخ.

صعود صيني
برغم صعوبة تحديد تأثير قرار إدارة ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ على تقليل مستوى الانبعاثات الكربونية أميركيًّا أو عالميًّا، إلا أن مؤشرات تواترت بسرعة على تأثيره على النظام الدولي، حيث جاء القرار بعد أيام معدودة من رحلة الرئيس الاميركي إلى أوروبا، حيث التقى أعضاءَ حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ومجموعة السبع، والتي على إثرها صرحت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، في صراحة غير معهودة، بأنه لا يبدو أن أوروبا بإمكانها التعويل على شركائها كما كان في السابق، وأن عليها الاعتماد على نفسها بنحو أكبر. وقد جاء قرار ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس ليؤكد هذا الاتجاه، حيث سارعت الدول الأوروبية الكبرى (ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا) إلى إصدار بيان مشترك تُعلن فيه تمسكها بالاتفاقية، ورفضها فكرة إعادة التفاوض حول بنودها.
وكان لكل من «ميركل» والرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» تصريحات منفصلة شديدة القوة أيضًا في هذا الصدد. وبجانب دفاع الدول الأوروبية القوي عن الاتفاقية، فإنها أوضحت أنها ستعمل على دعمها من خلال التواصل مع أطراف دولية أخرى. وقد جاء ذلك خلال لقاءات ميركل مع رئيسي وزراء الصين والهند اللذين زارا ألمانيا مؤخرًا، وفي أول مباحثات تُعقد بين الصين، ممثلة في رئيس وزرائها، والاتحاد الأوروبي ككتلة موحدة، والذي تم في أعقاب إعلان «ترامب» مباشرة عن قرار انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية. وبرغم أن الخلافات بين الجانبين حول التجارة وقضايا أخرى أعاق الوصول إلى بيان مشترك، إلا أنهما دعما بقوة استمرار العمل باتفاقية باريس.
وتواترت المواقف المشابهة من شتى دول العالم، في إشارة إلى أن المخاوف بأن الاتفاق قد يتفكك بانسحاب الولايات المتحدة قد لا تتحقق، وأن العالم سيسير قدمًا في هذه القضية من دون الولايات المتحدة، وأنه قد تظهر قيادات بديلة لها في هذا الإطار. وبينما قدمت أوروبا نفسها سريعًا لتولي هذه المهمة، فهناك من يتحدث عن «مجموعة الستة» لتولي القيادة.
ومع الإعلان الاميركي عن الانسحاب من اتفاقية باريس، يرى كثيرون أن الفرصة قد أصبحت مواتية للصين لملء الفراغ. ويدعم هذه الرؤية أن بكين تقدم نفسها منذ تولي «ترامب» الحكم في العشرين من يناير 2017، وإفصاحه عن توجهاته الحمائية فيما يتعلق بالتجارة الدولية، بوصفها الزعيم الجديد لحركة العولمة الاقتصادية. وقد دشن رئيسها هذا التوجه بكلمته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في يناير الماضي (2017)، وأكد عليه في منتدى مبادرة «حزام واحد.. طريق واحد» الذي عُقد في بكين في شهر مايو الماضي (2017)، والذي تعهدت فيه الصين بتخصيص مبالغ ضخمة للاستثمار في بناء البنية التحتية في آسيا وإفريقيا من أجل دعم النمو الاقتصادي والتبادل التجاري العالمي.
وكما أن حماية حرية التجارة يمثل مصلحة مباشرة للصين، فإن قضية المناخ أصبحت حيوية بالنسبة لها أيضًا. فقد تسببت حركة التصنيع غير المنظمة في العقود السابقة في مستويات عالية من تلوث البيئة والماء والهواء في الصين، بشكل يهدد سلامة وصحة سكانها، الذين تكررت احتجاجاتهم في هذا الشأن. كما أن للصين مصلحة اقتصادية مباشرة، وهي بصدد أن تصبح قوة عظمى في إنتاج الطاقة النظيفة. فمن بين حوالي 8 ملايين وظيفة توفرها صناعة الطاقة المتجددة حول العالم؛ فإن نصيب الصين منها 3,5 ملايين، بينما لا يتجاوز نصيب الولايات المتحدة مليون وظيفة. وقد بلغ حجم الاستثمارات الخارجية للصين في هذا المجال 32 بليون دولار، بينما استثمرت 100 بليون دولار في هذه الصناعة على المستوى الداخلي عام 2015.
وتُعد الصين بنحو خاص أكبر منتجي ألواح إنتاج الطاقة الشمسية، حيث إن 5 من أكبر 6 شركات في هذا المجال على المستوى العالمي موجودة في الصين. وقد نجحت في تقليل تكلفة إنتاج هذه الألواح بنسبة 30% هذا العام. وبالتالي، فإن الإنجازات الصينية في هذا المجال، إضافة إلى انخراطها بصورة أكبر على الساحة الدولية اقتصاديًّا وسياسيًّا يؤهلها لأن تحتل مكانة قيادية في قضية مكافحة تغير المناخ.
خلاصة القول، سوف يُؤثر انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ سلبيًّا على موقف إدارة «ترامب» داخليًّا وخارجيًّا منه على مستقبل الاتفاقية نفسها. وسواء تصدى لقيادة العالم في هذه القضية دولة أو مجموعة من الدول، فإن ذلك مؤشر أوَّلي على استعداد النظام الدولي لترتيب أوضاعه للتكيف مع الميول الانسحابية لإدارة ترامب. ويوضح اتجاه المدن والولايات والشركات الاميركية لمواصلة التفاعل مع العالم بشأن هذه القضية في اتجاه مخالف لاتجاه الإدارة الاميركية أن الواقع الاقتصادي والتكنولوجي قد تطور بنحو يصعب الرجوع عنه.
وبرغم أن هذه التفاعلات تبدو مرتبطة في الوقت الحالي بقضية واحدة، هي تغير المناخ، فمن المتوقع أن تنسحب إلى توازنات القوة في النظام الدولي ككل، بحيث يظهر بصورة أكبر دور كيانات من غير الدولة، مثل الولايات والشركات العالمية من جانب، وتزداد أهمية قوى صاعدة مثل الصين من جانب آخر، بينما يسعى النظام ككل للتكيف مع هذه التحولات، مع تراجع متوقع وربما انعزال دبلوماسي للولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس «ترامب».

*مركز البيان للدراسات والبحوث

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة