ماراثون.. ومحاولة الإمساك بالنسق الحكائي

علوان السلمان

العملية الابداعية باختلاف اشكالها وتباين مضامينها هي عملية فنية تسجل انسانية الانسان المنتج ..الخالق لعوالمه المنبثقة من خيالاته ورؤاه الفكرية والمحيط بكل موجوداته..
والقص القصير مغامرة تحاكي الواقع باقتناص لحظاته والتفاعل معها وجدانيا ونفسيا..مع اضفاء ابعاد تأملية وجمالية تعبر عن واقع محتمل يوجب على المستهلك(المتلقي) الكشف عن دلالاته واستنطاق ما وراء عباراته بتحريك قواه الفكرية.. كون النص نشاط انساني بما فيه من معطيات زمانية ومكانية وحدثية وشخصانية باعتماد لغة ابداعية مكثفة ..موجزة..رامزة بالفاظها التي تمتلك قدرة مشحونة بدلالات انسانية عميقة…
و(ماراثون).. ابداع سردي انتجته مخيلة القاص عبدالحسين علوان الدرويش ونسجت عوالمه الجامعة ما بين القص القصير والقصير جدا..واسهمت دار الشؤون الثقافية في نشره وانتشاره/2016..كونها نصوص تقوم على اساس جمالي قوامه اللمحة الفكرية التي تكشف عن حالة نفسية بلغة تشكل وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها والتي يعمل القاص على تفجير قدرتها الايحائية والانزياحية كي يكشف عن وظيفتها الجمالية ومضمونها..ابتداء من العنوان بفونيمه المتفرد الدال على جملة اسمية حذف احد اركانها..والذي يمثل عنصرا من عناصر تشكيل النص ودلالة سيميائية متوهجة ونافذة رؤيوية مكتنزة بطاقة ايحائية تستدعي المستهلك(المتلقي) للولوج الى عوالم النص وفك شفراته..
(لهاث..نبض سريع..تصاعد ضربات قلب واهن..اعداد هائلة تركض بكل ما تملك من طاقة.تتراجع خطوات..تتسارع خطوات..جريان بسرعة البرق لا يتوقف سيله..انه الطوفان..
ترى الجميع كالنفير يتنافسون.. يتصادمون.. يفترشون مساحة كاصبع الخنصر في اليد الملوحة بالانتصار الكاذب..الترحاب المزيف..يخوضون مع الخائضين..منهم الضخم نسبيا..الصغير حد التلاش رهيف كعود سنبلة جوفاء بيضوي الراس ثنائي الراس ليس باستطاعة أي شخص عادي ان يراهم بالعين المجردة..شدة الزخم والتلاصق.. ازدحام متوال..موجة عارمة في بحر الظلمات..حشر في اليوم الموقوت..قبل ان يخرج من سباته المرقوم.. في ذاكرته معلقة صحيفة وشم ابدي..سالك في دربه المهيمن لا يسمع غير صرير الاقلام تنحت مصيره بطلاسم الحروف الاولى..منضدة في اللوح المحفوظ بعد ان ينسلخ كانسلاخ الليل من النهار..يمر عبر ظلمات ثلاث..طلقات سبع..مخاض عسير..يولد بعد هنيهة مغسولا بمياه الفجور يصرخ عاليا بالرفض..يود ان لم يكن شيئا منسيا..بعيدا عن جذع النخلة يتساقط عليه وهما بالفوز..رجيما بالغيب..) ص25ـ ص26..
فالنص كتلة معبأة بفكرة وحدث وزمكانية وعقد درامية من خلال اقتناصه اللحظة وتدوينها بكثافة جدلية وايجاز لغوي ايحائي يكشف عن دلالاته عبر الفاظ رامزة..مكتنزة بابعادها الجمالية والفكرية..اذ تناصها وبعض النصوص القرانية (سورة مريم(ع)..وهي مكتظة بهمها الاجتماعي وهاجسها الانساني واستنادها على تحليل نفسي لتصوير العواطف والاحاسيس الداخلية..اضافة الى ان القاص يوظف خزينه الفكري والمعرفي بصور وانثيالات وتداعيات واسترجاعات.. مع تضافر الوصف الموجز لتعطيل فعل السرد من اجل استنطاق ما خلف الالفاظ بجملها ومشاهدها..كون القاص ينطلق في نسجه النصي من محمولات فكرية ومجتمعية معمقة يعايشها ببعدها الفني الانساني وهو يقدم نصا يرثي الواقع بمحاكاته..
ـ صمت مطبق..ودموع خرساء واقفة متأرجحة..لوحة

تعبيرية تنم عن ألم وفجيعة تأبى لغات العالم تفسيرها..
ـ تكلمي…تكلمي…قولي أي شيء..
واخيرا نطقت وامتزجت كلماتها بالدموع المنهمرة كلآليء تتساقط على مرمر..
ـ الى متى يبقى هذا الحب مصلوبا على سارية الانتظار..الى متى ابقى معلقة ما بين الجنة والنار..(والحب ظلله الخلود..فلا لقاء ولا وداع..لكنه الحلم الطويل بين التمطي والتثاؤب تحت افياء النخيل..).. ضجر وبأس قاتل تتناوله اياد قذرة تدس السم الزعاف..خوف وترقب مشوب برهبة البعد والفراق..وصرخة تحد تنطلق على سابع سماء..لماذا تجري الرياح…… سبعون مرة رددته لماذا..اهكذا تسير المقادير ضدنا..؟ ..متى ينبلج الفجر..وتاخذ اشرعتنا رياح المودة على بر الامان؟ وهل نظل مبحرين ضد التيار..؟ وهل لدينا طاقة للتجذيف بعد ان مزقت شراعينا التحديات والموارث الكونية..متى تشرق الشمس..؟ / ص20ـ ص21..
فالقاص يعتمد في نصه على الحدث المركزي واللحظة العيانية المستلة من الواقع والمتميزة بتماسك بنائها الذي استحضر عالما فنيا متكاملا بذاته..متفردا بلغته المكثفة ..المشحونة بدلالات انسانية عميقة…ورؤاه التي تنوعت بتنوع موضوعاته التي لم تخرج عن واقعية اجتماعية..فضلا عن توظيفه تيار الوعي اذ تداخل الازمان وتداعي الافكار والحوار بشقيه(الذاتي(المنولوجي) الذي هو حوار الذات ونفسها..والحوار الواقعي(الديالوجي) الذي هو حوار الشخوص من اجل الكشف عما في داخل الشخصية بلغة خالقة لحالات انسانية باحثة عن منطقية احداثها..اضافة الى توظيفه تقانة التنقيط التي تستدعي المستهلك (المتلقي) لاشغال بياضات النص عبر لغة معتمدة السياق والتركيب الخالق للمشهد..
فالقاص باعتــماده الحوار استــطاع ايصال رؤيته الفكرية
باسلوب متماسك النسج ومتماهي والواقع وهو يتخذ من المنهج الواقعي الانتقادي منهجا يحرك خطواته السردية المتصاعدة..فضلا عن اعتماده التشخيص والتحليل لتفاصيل حياتية وحوادث اجتماعية لها انعكاسات على ذاته الساردة وتاثيراتها المجتمعية..عززتها لغة يومية مشبعة بدلالات موحية ومجازات واستعارات..اضافة الى عنصر الشخصية الفاعل والمتفاعل والاحداث والذي ارتكز عليه النص بصفته بؤرة السرد المركزية التي يشع منها الواقع الاجتماعي..
اما في نصوصه الوامضة.. القصيرة جدا التي تتشكل من(لحظة غير قابلة للتاجيل)..والتي كانت نتيجة مخاضات التجريب بحكم التحولات الفكرية والفنية التي فرضت وجود هذا النوع من السرد المراوغ موضوعيا..للتعبير عن روح العصر الذي وسم بعصر السرعة وهو يستجيب لعوامل داخلية وخارجية كان في مقدمتها ترجمة مجموعة قصص قصيرة جدا لناتالي ساروت(انفعالات).. وحركة الحد الادنىminmalism التي برزت في الولايات المتحدة ودعت الى(كتابة مختصرة لحياة مختصرة)..
(انتفضت فزعا..انعصر قلبي عندما تجلت امامي وبدون ان احس بها..وقالت لي بصوت ينم عن الم وفجيعة مرة حفرتها سنين غابرة علا وجهها الكالح الذي لا يخلو من ملامح الجمال الهارب.. وهي تمسك بشدة بيد طفلها الاول..وطفلتها الثانية توارت خلف عباءتها الرمادية التي فقدت لونها الاسود منذ سبعين سنة..
ـ تفضلي..ماذا استطيع ان اقدم لك..؟
ـ فجاوبتني بصوت مبحوح..
ـ اريد ان اشتري حليبا لاطفالي..
بقيت في حسرة من امري وانا لا املك المبلغ الذي سيوصلني الى البيت فدفعت لها كل ما املك في جيبي اليتيم..ظننت ان المبلغ قليل فحاولت جاهدا ان استدين مبلغا
آخر واذهب لاحقا بها لاعطائها فتسمرت قدماي على الرصيف واصبت بذهول عندما رايتها راكبة سيارة اجرة خصوصي..) ص85..
فالنص يحاول الامساك بالنسق الحكائي والتوتر الدرامي والحدث السردي بلغة ايحائية تعتمد التكثيف الجملي الذي يحتضن عالما متسع الدلالات .. مع اقتصاد في الالفاظ وضربة اسلوبية ادهاشية ..اضافة الى هيمنة المؤثرات المعرفية والاسلوبية التي اسهمت في تجاوز القوالب الجاهزة والخروج ببنائه المشهدي من السياق المألوف الى سياق لغوي مليء بالايحاءات والمفارقات الاسلوبية..
وبذلك قدم القاص نصوصا انسانية تعتمد سيرة ناس ومدينة بتوثيق نسيجها بوقائع يتمازج فيها الواقعي بالتخييلي..مع اعتماد التكثيف الجملي الذي يحتضن عالما متسع الدلالات برؤية شعرية من حيث البنية واللغة..اضافة الى استيعابها لأبعاد ومعاناة الانسان واغترابه المجتمعي والنفسي بلغة موحية وردود افعال الشخوص وتصرفاتهم التي تعكس الحالة الشعورية والمحيط المؤثر في افعالهم.. وهو يلتزم بعناصر البناء السردي باعتماد عنصر الحادثة وانعكاساتها زمكانيا مع كثافة درامية متوترة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة