عن عمر يناهز القرن رحل عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي لما يقارب الثلاثة عقود (1964-1993) وبالرغم من أن (الأعمار بيد الله) كما يقال، لكن ذلك العمر الطويل لمن كان زعيماً مزمناً لما يعرف بـ (حزب الشهداء) والذي لا يتعدى معدل عمر المنتسبين له الأربعة عقود، يشير الى مفارقة تستحق التوقف عندها طويلاً. من المعروف عن الأحزاب والحركات الثورية أنها تتعرض الى حملات قمعية وإرهابية شرسة، تؤدي في غالب الأحوال الى استشهاد قادتها ومن يمثلون رأس رمحها، وهذا ما حدث تماماً مع الحزب الشيوعي العراقي حيث أعدم مؤسسه وزعيمه (عام 1949) الرفيق فهد وهو في بداية الأربعينيات من عمره مع عضوي المكتب السياسي حازم وصارم واللذين كانا أصغر سناً من زعيم حزبهم، كما لم يكن السكرتير الأول للحزب سلام عادل ورفاقه في القيادة (جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وحسن عوينه وبقية القافلة المتوهجة من شهداء جريمة 8 شباط 1963) أكبر سناً من القافلة الأولى، لا بل أن قائد انتفاضة معسكر الرشيد العريف البطل حسن سريع لم يتجاوز عمره الثلاثة وعشرين عاماً عندما أعدم بعد محاكمة صورية.
كان ذلك عندما جسّد الحزب الشيوعي في سياساته وسلوكه ونشاطه، التطلعات المشروعة لسكان هذا الوطن القديم، لكن المعادلة تغيرت تماما بعد نجاح (المنحرفون) بتنفيذ أكبر مجزرة إجرامية بحق ذلك الحزب وجماهيره العام 1963، عندما تم تصفية غالبية الزعامات والكوادر المبدئية والفاعلة في الحزب، وفق قوائم مهيئة مسبقاً وضمن حلقات عمل ممنهج تواصل لاحقاً بعد عودتهم للسلطة العام 1968 وعقدهم لما يعرف بـ (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) والتي ذيلت بإمضاء رئيس الجمهورية آنذاك احمد حسن البكر والسكرتير الأول للحزب الشيوعي عزيز محمد. ما جرى بعد ذلك لا يتناطح عليه كبشان، حيث تم الإجهاز تماماً على ما تبقى من ذلك الحزب الذي مثل ذات عصر أفضل مالدى العراقيين من حيوية وإبداع ومشاريع وطنية واجتماعية وحضارية، بعد أن أمن عزيز محمد ورفاقه في القيادة آنذاك، تشكيلات وتنظيمات الحزب المختلفة عند الحزب الحليف وأجهزته عشية سفره للملاذات الآمنة (الربان أول من يطفر). وهنا لابد من الإشارة الى التنظير الوحيد الذي صاغه المرحوم وهو البعيد تماماً عن كل ما له صلة بالأفكار والتنظير والكتابة النقدية وهو (أننا سنبني الاشتراكية سوية مع البعثيين) بعد المؤتمر الثالث للحزب والذي لم يجف حبر وثائقه ومدوناته، حتى أكد الحلفاء مدى حذاقة وعبقرية سكرتيرنا الأول.
بالنسبة لي شخصياً لا استغرب من كم الكتابات البعيدة عن الموضوعية والإنصاف التي صدرت بعد رحيل عزيز محمد، حتى أن أحد المقالات قد وصفته بـ (مانديلا العراق) وهذا يؤكد ما أشرنا اليه مراراً في كتاباتنا وبقية نشاطاتنا، حول حجم الضياع الذي تقف خلفه مثل هذه الأقلام والعقول المتخصصة بتزييف الوقائع والأحداث. البعض يشيد به من منطلق كونه شخصاً بسيطاً ومتواضعا، وأنا اتفق معهم في كونه متواضعا تماماً، في كل إمكاناته (العملية والنظرية) وهذا ما بوسعنا التعرف عليه فيما تركه من آثار ونتائج كارثية، طوال أكثر من ثماني عقود قضاها في صفوف عميد الأحزاب السياسية العراقية. يمكن اختصار إرث الفقيد بالثوابت التي تهيمن على سياسات وسلوك الحزب منذ توليه لزعامته الى يومنا هذا؛ حيث التبعية والذيلية والاغتراب التام عما كان يشكله قبل ذلك، عندما قال عن نشاطه رئيس المخابرات الأميركية آلان دالاس العام 1959 بأنه (أخطر ما يحدث بالشرق الأوسط) هكذا كان الحزب قبل وصول المرحوم وبقية الديناصورات الى زعامته..
جمال جصاني
السكرتير الأسبق ومقلديه
التعليقات مغلقة