خالد المطلوب
تُعَدُّ فلسفة الأديان واحدة من المراحل التي تطور عبرها علم الأديان كعلم منهجي قائم بذاته، حيث وضع فيورباخ -المؤسس الحقيقي للنزعة المادية في الفلسفة- في كتابه «أصل الدين – 1843م» المرتكَز الفلسفي لذلك العلم. ثم جاء ماركس من بعد فيورباخ ليواصل المشوار في تطوير علم الأديان باحثا في حقيقة وماهية الدين، وُلِدَ ماركس «في عائلة من الطبقة الوسطى من أب يهودي، في بداية نشأته، اسمه هرشل، ثم أصبح الأب مسيحيا بروتستانتيا اسمه هنريخ. درس ماركس في جامع بون، وجامعة برلين، واهتم فيهما بأفكار الهيغليين الشباب» (خزعل الماجدي، علم الأديان، ص244).
من الإنجازات الكبيرة التي تُحسب لـ «كارل ماركس 1818-1883»، هي قيامه -ولأول مرة عبر التاريخ- بإنزال الفلسفة من علياء برجها العاجي، إلى شوارع الثورات في أوربا القرن التاسع عشر، بعد أن كانت الفلسفة نشاطا تأمليا مكتبيا بعيدا عن مجريات الحياة اليومية، حيث كان ماركس يعي أن الثورة -وليس النقد- هي القوة المحركة للتاريخ، للدين، للفلسفة ولكل نظرية أخرى، فقد عاصر الرجل عددا من الثورات (1830، 1848، 1871)، بما فيها إرهاصات الثورة الفرنسية التي كان من بينها ما أُطلق عليه حينها «كومونة باريس». كما عايش ماركس النمو السريع للرأسمال الصناعي الأوروبي، وما رافقه من ضغوطات كبيرة على العمال وانتقاص لحقوقهم على شتى المستويات، الأمر الذي شارك في دفعه لإبداع مؤلّفه الأساسي في الاقتصاد «رأس المال» ودعم إسهاماته الكبيرة في حقل الاقتصاد السياسي.
وقد جاء نضج ماركس الفكري في ظروف أوروبا العصر الحديث وولوجها في طور النهضة، الذي كان عاملا أساسيا في تكسير قيم الايديولوجيات القديمة وإحلال ايديولوجيات جديدة محلها، فقد وقع الانشقاق الديني الذي نتج عنه ظهور المذهب البروتستانتي، وما رافقه من تقدم للعلمنة والعقلنة، ثم جاءت الثورة الفرنسية ضاربة بتأثيرها معظم أنحاء أوروبا من حيث سيادة ايديولوجيا عقلانية دنيوية، مما ساعد على تراجع وتهميش نفوذ الايديولوجيا المسيحية من جانب، وصعود أفكار وفلسفات جديدة تُتَرجم ما حلّ من انعطاف، من جانب آخر. فقد رأى ماركس «إن المبادئ الاجتماعية للمسيحية قد بررت الرق القديم، ومجّدت القنانة الوسطوية، كما ارتضت، عند الحاجة، الدفاع عن اضطهاد البروليتاريا، حتى وإن فعلت ذلك متظاهرة بالاستياء» (كارل ماركس، حول الدين، ص64).
إن قيام ماركس -في خضّم أعماله الفلسفية الكبرى- بالمزاوجة بين مادية فيورباخ وجدلية هيغل، ودفع الفلسفة العالمية، بما فيها النظرة إلى الدين، نحو الاقتراب الحثيث من الواقع «المادي» ونبذ الخيال «الميتافيزيائي»، قد اسهم في منحه رؤية واضحة للخطاب الديني للقرن التاسع عشر، والذي قام فيه الرأسماليون بدعم من رجال الكهنوت بتوجيه الدين وجهة تخدير العمال، بهدف ضمان استقرار سوق العمل بالشروط المجحفة التي تحيا في ظلها طبقة العمال، فالدين في بعض وجوهه «يرجئ السعادة والجزاء إلى الحياة الأخرى، ويدعو الناس إلى القناعة بأوضاعهم في هذه الحياة، ويؤدي ذلك إلى صرف الانتباه عن المظالم ووجوه التفاوت واللامساواة في العالم». (أنتوني غِدِنْز، علم الاجتماع، ص580)
تصدّت دراسات ماركس الدينية للايديولوجيا المسيحية الغربية دون غيرها، وجاءت في سياق النضال الديمقراطي الذي كان يخوضه الشعب الالماني على الاخص، فلم تتناول بحوث ماركس الايديولوجيا المسيحية الشرقية أو الاسلامية، عدا وجود ثلاث رسائل متبادلة بينه وبين إنجلز تخص الأوضاع التاريخية في الشرق، يقر فيها إنجلز بنقص معلوماته عن ذلك الإقليم. وتجدر الإشارة إلى أن ماركس لم يكتب مؤلَّفا منفردا في علم الأديان (إذا استثنينا الرسائل والمقالات التي دَوّنها هو وإنجلز وتم تجميعها لاحقا في كتاب أطلق عليه؛ حول الدين)، بل كانت فلسفته الدينية موزعة بين عدد من مؤلفاته، وقد استقى الكثير من أفكاره في هذا المجال من كتابات فلاسفة عاصروه. ولعل فلسفته الدينية بَدَت شديدة الالتصاق برؤيته عن الاشتراكية والدفاع عن حقوق العمال، سيّما وأن ماركس ساهم بتأسيس خط الاشتراكية الثورية رفقة فيورباخ وإنجلز، وطوّر علم الاجتماع بنظرياته الاشتراكية، فكان يدرك مدى خطورة الدور السلبي للدين الرسمي السلطوي على فئات واسعة من الشعوب.
من جانب آخر، رأى ماركس -بمنظور فلسفي، اجتماعي، تاريخي- أن تفسيرات الدين الماورائية للظواهر الطبيعية والاجتماعية، لم تكن أكثر من نتاج للعقل البشري، حين عجز عن إيجاد معنى واقعيا ماديا لتلك الظواهر. ومن هنا، اعتقد ماركس أن فهم الظاهرة الدينية لا يستدعي نزولا من السماء إلى الأرض، بل على العكس من ذلك، يتطلب فهم السماء انطلاقا من الأرض، وعلى ذلك فان الوقوف على أصول الاديان وتطوراتها غير ممكن إلّا من خلال فهم وتفسير الواقع التاريخي الملموس، حيث أن «زلزلة تاريخية كبيرة جدا في الشروط الاجتماعية تجر في الوقت نفسه إلى زلزلة في مفاهيم البشر، وبالتالي في تمثيلاتهم الدينية» (كارل ماركس، مصدر سابق، ص73).
كان ماركس واسع المساهمات في عدد من المجالات؛ فهو فيلسوف واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرخ وصحفي، الأمر الذي يمكن أن يشير إلى أن الرجل لم تكن تعوزه النظرة العميقة للمجالات التي تناولها ومن بينها الدين، حيث كان يَعدّه «قلب عالم لا قلب له». هذا الطيف الفكري العريض الذي انشغل فيه ماركس، جعله ينظر إلى الإنسان كجزء من مجموعة بشرية تعيش ضمن علاقات تنتظم في دولة ومجتمع، فتقوم الدولة بتوجيه الدين إلى الوجهة التي تضمن لها الاستمرار في إخضاع المجتمع على وفق احتياجاتها ورغباتها، مما يعني أن الوعي والتصوّر الخاطئ الذي أنتجه الدين نحو العالم متأت من خطأ الدولة والمجتمع، فالدين لا ينفصل عن طبيعة الدولة وطبيعة المجتمع. ولم يكن مفهوم العلاقة بين الدولة والمجتمع بالدين بغريب عن المرحلة التي عاشها ماركس، فهو يقتبس -لينتقد ويفنّد- عن الصحفي الموصوف بالرجعية «هرمس» والذي كان محررا سياسيا لصحيفة كولونيا، قوله: «الدين هو أساس الدولة، كما أنه الشرط الأكثر لزوما لكل تجمع اجتماعي لا يهدف فقط إلى غاية ما سطحية» (كارل ماركس، مصدر سابق، ص18)
إن المسألة الشديدة الأهمية في فكر ماركس الديني، هي ما اشتُهِر عنه بمقولة «الدين أفيون الشعوب»، وهي في حقيقة الأمر جملة مقتطعة من عبارة اكبر، لو قُرِأت كاملة لوضح ما أراده ماركس من معنى؛ «إن الهم الديني هو، في الوقت نفسه، تعبير عن همّ واقعي، واحتجاج على همّ واقعي. إن الدين هو آهة الخليقة المضطَهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضعٍ بلا روح، إنه أفيون الشعوب» (خزعل الماجدي، علم الأديان، ص244). ويمكن القول أن الكثير من الفلاسفة كانوا قد سبقوا ماركس في تناول هذا المبدأ وإن جاء بسياقات مختلفة، من مثل؛ كانط، هردر، فيورباخ، وآخرين، ولعل التناول الثوري للدين عند ماركس وسعيه للكشف عن أوهام الدين الرأسمالي، هي التي ألصقت تلك الفكرة بماركس دون غيره من المفكرين.
لعل الأمر الدقيق الواجب مراعاته عند قراءة فكر أو تاريخ معين، هو استحضار الظروف التي نشأت فيها الظاهرة محل البحث، بصفتها الحاضنة والرحم الذي حدد نمو وصفات المولود الجديد، لذلك يجدر القول بوضوح؛ أن فلسفة ماركس الدينية كانت ترتكز في الأساس على تعرية الخطاب الكنسي السائد في عصره، باعتباره سندا لسلطة الرأسمال النامي والذي كان يقف على الضد من تطلعات العمال في حياة كريمة، تلك الطبقة (طبقة العمال) عوّل عليها ماركس كحجر زاوية في بناء مجتمع يتصّف بالعدالة والإنصاف، وهو ما دفع ماركس للوقوف بحزم ضد مستغِلي العمال من رأسماليين ودولة داعمة ودين يشرعن استغلال مهين من قبل الإنسان لأخيه الإنسان. وعلى ذلك، لا يبدو أن مشروع ماركس الفلسفي والسياسي معنيا بإزالة الدين، قدر ما كان معنيا بإزالة العوامل التي أنتجت مجتمعات ودول كان الدين يشبهها في أخطائها عيشا وفهما.
لم تكن السياسة والمجتمع الغربي ببعيدة عما أنتجه ماركس من أفكار، بل أن الثورة الفرنسية 1789م التي جاءت كحدث مفصلي في تاريخ أوربا الحديث قبل ولادة ماركس بأكثر من ربع قرن، كانت قد حجّمت دور الكنيسة وأبعدتها عن عالم السياسة والحكم، ليكون ذلك الفعل بمثابة البداية لأنظمة الحكم العلماني والمدني التي شاعت لاحقا في أوروبا وفي غيرها من قارات العالم. إن ما حدث على الصعيد العالمي في حقيقة الأمر هو تراجع الامبراطوريات الدينية، وإفساح المجال أمام ظهور نمط جديد من أنظمة الحكم المدني، وإعادة رجال الدين إلى كنائسهم وإديرتهم، ولكن هل تمخّض ذلك عن اختفاء دور الدين من حياة البشر! يبدو أن الإنسان بحاجة إلى مجال من الروحانيات أمام الجفاف الذي يعتري عالم المنطق، فمعنى أنْ تكون إنسانا هو أنْ تكون متدينا -كما يرى «مرسيا إلياد»- عالِم الأديان المهم في القرن العشرين.