…. أو هكذا هي العاصفة

شكر حاجم الصالحي

منذ مجموعته المشتركة الصغيرة الحجم (( قارة ثامنة )) التي أصدرها قبل ما يزيد على اربعة عقود بالاشتراك مع زميله الشاعر شريف هاشم الزميلي , توقف الشاعر عبد الهادي عباس عن الفعالية الشعرية بعد أن اخذته مشاغل الوظيفة والحياة عن حلقة الأبداعي : رغم انه في لقاءاتنا المتكررة ينفي هذا التوقف ويعدنا بمفاجئات قادمة إلا انني شخصياً كثيراً ما كنت ودياً واحرضه على ضرورة البرهنة على انه مازال في بيت الطاعة الشعري من خلال عودته الى نشر مفاجئاته , ولم يدهش محبيه بما نشره من نصوص قصيرة / متباعدة في بعض الصحف المحلية , ورغم هذا التكاسل الملموس , علينا ان لا نغمط عبد الهادي عباس موهبته وتمكنه من أدواته وسلامة لغته , لكن هذه العوامل حتى وان اجتمعت لا تؤهل من يمتلكها الحضور المدهش واللافت للانتباه في المشهد الثقافي المحتشد بآلاف الأصوات المبدعة والناشطة نشراً وطباعة واصداراً وحضوراً , فالتواصل مع روافد المعرفة الحديثة والاطلاع على جديد الشعر والحيوية هي من تحفز الشاعر ــ أي شاعر ــ على امتلاك صوته الخاص وسط هذا الضجيج , وبتحريضنا المتواصل , اصدر عبد الهادي عباس مفاجئته الشعرية (( …. أو هكذا هي العاصفة )) في أواخر عام 2016 م , ضمنّها ــ كما يبدو ــ نماذج مختارة مما انتجه طيلة فترة انشغالاته الحياتية التي زادت على اربعة عقود من الزمن , وهي ليست قليلة بحساب السنوات , والذي يجعلنا نتأكد من صواب توقعاتنا ان عنوان ديوانه يشي بذلك اذ جاءت ترسيمته هكذا :
……. أو
هكذا هي العاصفة
والنقاط التي سبقت هذا الــ (أو) تشير الى ان هناك كلاماً محذوفاً لم يرد الشاعر المنتج التصريح به والاعلان عنه , وأشك ان ترسيمة العنوان هذه قد جاءت عفوية وبمعزل عن ما ندعيه , وأول ما يلفت انتباه القارئ ان واحداً وتسعين نصاً ضمها الديوان , امتازت بقصرها الذي جاء مستوفياً لأشتراطاته الفنية فأغلب هذه النصوص مشيدة بأدوات الواقع والتجارب الحياتية التي استدرجها الشاعر لتكون مادة حاضرة في كتابته ( المطبوعة ) , ولا أدري عن أي عاصفة يشير عبد الهادي عباس , فالحياة / حياتنا كلها عواصف عاصفة ودامية , خاصة تلك التي داهمتنا بمفخخاتها وكواتمها واحزمتها وعبواتها ودواعشها القتلة , فنحن نعيش في زمن الجريمة المنظمة التي ينفذها الأوغاد الذين يقول عنهم الشاعر :
لم يكتفوا بالخيانة
علقوها على شرفات منازلهم
ومسحوا السكين بمؤخراتهم
ثم تعاونوا بغلق فم الوردة
وترنحوا مبتهجين
ترويجاً للفتنة ……..
ــــ الديوان / ص 23 ـــ
ومع انه ــ الشاعر ــ يرسم صورة قاتمة لراهننا الذي نعيش في اغلب نصوص الديوان , إلا ان بعض نصوصه العائلة / المرأة / الأبناء موضوعات لها , وهو بذلك يديم صلته بمجتمعه وباشيائه الخاصة وخصوصياته فتراه يفتتح ديوانه بـ (صورة ابي) ص 5 , ونص ( الى عباس بن علي ) ص 33 , على انه لا يغفل المأوى الذي يجمع العائلة / الوطن بنصه الجميل البيت ص 14 الذي لخص فيه معاناته وأبدع في تقديمه بما هو عليه
بيت ثمل / وحديقته الوان شتى / و عصافير / كان الطفل يرسم تفاحته / والقطه/بمهارتها تزهو بالرقص هناك / بيت يحلم بالمطر الابيض / والاشجار
بيتٌ يملك باباً من ازهار / وحمامات تحرسه / بيت كان هنا أين هو الآن ؟ /
ثلاثة بيوت / بيت ثمل / بيت حالم / و ــ بيت يملك باباً .. هل كان هذا هو الوطن المستقبلي المتخيل كما يتوقعه الشاعر , ثلاثة بيوت , وهي اشارة رمزية لما يخطط له الاوغاد , ولكني اعتقد أن الشاعر لم يكن في وارد تفكيره مثل هذا المصير المتناثر , ما دامت لحمتنا هي الأقوى , ومصيرنا وسعادتنا لا تتحقق إلا في بيت واحد تسوّره حدقات عيون وسواعد ابنائه , واتمنى ان يكون بيت الشاعر هذا هو بيت عباس علي و اولاده الاوفياء الذي هو بالتأكيد صورة مشتهاة لوطن الجميع في البيت الكبير , ومن نصوص عبد الهادي عباس الجميلة ايضاً ( الواقع ) ص 111 الذي يداهمنا بنظرته الكابية للاشياء المحيطة بقوله :
تغيّر كل شئ / الطرقات ماعادت تشبهنا / والنوايا ايضاً
والعالم بحجم برتقالة / تأكد من سبابتك / واضغط على
زر بسيط جداً / للوصول الى نجمة / الدهشة ستصاحبك
ولا تكن غافلاً / ستقذفك المارة / عبر المحيطات / هكذا هو الحال/
وفي نصه المميز (عشبة الذاكرة) يمنحنا عبد الهادي دفقات من الأمل بغدٍ مترع بالمحبة والجمال والتسامح والأماني المفعمة بمستقبل أفضل , وبرأيي ان (عشبة الذاكرة) نص جعلنا نعود مع عبد الهادي عباس الى حقله الشعري الأخضر مبتهجين به شاعراً سبعينياً ما زال قادراً على الأبداع والتميز رغم طول صمته الذي أربك محبيه وجعل لأسئلتهم اجابات وافية وشافية ومقنعة , وأستحق الشاعر ما نتمناه له من حضور فعال وانتاج مطبوع وافر يعيده الى ميدانه الحقيقي اللائق … يقول عبد الهادي في عشبة الذاكرة :
لا أحزمة ناسفة ..
لا غدارات …
لا أقنعة سود …
لا اسيجة …
لا حشرات ضارة …
لا اسلاك …
لا عاجل …
لا صفارة انذار …
العطر هناك على القمصان
والوقت يسير بلا عكازات
وبلا فوضى
الناس هناك …
فراشات …
وها نحن مع عبد الهادي عباس نبتهل لجميع الناس بالأمن والسلام والطمأنينة , فما لنا سوى هذا البيت الذي أرضعنا الوفاء وصيرنا في موكب صعوده احبة وفرساناً وبورك الشعر الذي يلهج بالجمال ويدعو للأخوة والغد الرائق , وبورك الشاعر عبد الهادي عباس الذي انتج هذه المدونة الشعرية التي امتعتنا وعبرت عما في دواخلنا من امنيات وطموحات ورغبة في الحياة الكريمة الآمنة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة