صفاء ذياب.. شاعر الفوتوغرافيا

ومكتشـف رمزية المهمل وشعرية التفاصيل
(1-5)
ناجح المعموري

الجمال لا يتشكل في فوتوغرافات صفاء ذياب مما هو جاذب وساحر ومثير ، مثل التقاطات الحدائق أو البورتريهات النسوية الجميلة ، لان الجمالي كامن في غيره، كما في القبح ، والسواد جميل إذا وضع بين ألوان هو الأكثر حرارة وطغيان منها ، الجمال نسبي وهو في عين الناظر كما قال أفلاطون ، الجمال تمنحه لنا تنوعات الدلالة المكشوفة بقراءة ، وبعد قراءات غائبة ، حضورها أبهاري مثير للدهشة ، ينسبه التلقي الى أهمية الحفر في الصورة والركض وراء الغائب منها . لان الصورة ليست هي الواقع المتطابق ، هذا خطأ . مثلما هو أكذوبة القراءات التي تنتج الجمالي والفني الرفيع ، انه اللامكشوف والمغيب عندما يحضرا . تحدياً للصورة التي لم تعلن عنه بيسر وسهولة . الجمالي / الإبداعي هو منتوج العديد من اختلافات المتلقين ، تنوعها هو الذي يؤسس لما هو غير موجود أصلا ، لكننا نكونه ، ننشئه عبر عين وثقافة قادرة على معاينة اللامرئي في الصورة التي نضعها في امتحان صعب ومعقد وكل الصور مفتوحة على الاحتمال ، لكن الأشكال الحاصل وبين المتلقي والصورة ، أحيانا تكون الصورة بسيطة للغاية لكن الرائي هو الكاشف عن شفرات لم تصل لشخص أخر من قبل . العلاقة مع الفوتوغراف لا تختلف عن الصورة التي تقدمها الأقمار عن الواقع والثروات تحت سطح الأرض ، أنها محاولة للذي ينظر لها والمختلف عن الذي يحدق فيها كثيراً ، والعين التي ترى جيداً بدون نظارات طبية، غير العين التي تنظر بهما هذا تعبير مجازي واضح ومفهوم .
الجمال أكثر حضوراً في الصورة الثابتة لان العلاقة معها تضفي عليها الحركة . سكون الصورة يبعث للتأمل والعلاقة معاً تزيل طبقات ظاهرة وتبحث عن غائية غير مكشوفة وتضيف عليها مقترحات وهكذا . كذلك للرمز أو تنوعاته دور باقتراح الفني / الإبداعي . ونحن الذين نؤسس الرمز في الصورة ، وما نقترح تأسيسه لن يكون هو ذاته بالنسبة للآخر وهكذا ، نجد الرمز متنوعاً ، مختلفاً ومتبايناً هذه التشكلات هي نوع من جمال الفوتوغراف الذي تقترحه القراءات العديدة ، نحن ندرك جيداً بأن وجود الصور في كاليري أو متحف خاص يجعلها مفتوحة دوما وباستمرار للتأمل والفحص .. فكم هي الآراء التي يمكن أن يقولها المشاهدون ؟ وليس بالضرورة تكون واقعية ، وربما يجمع الأكثرية على قباحة صورة ، وهذا نوع من الجمال المضاد للسائد وأحياناً يتفق الكثير على عادية صورة مصنوعة ، لكن واحد يندفع بحماس لها .. هذا يقودني لتأكيد مقولة فنية مفادها أن الأكثرية ليست دليل على الأهمية . مثلما هي ليست اتفاق الإجماع تزكية تامة .
توصلت الى فرضية ، اعتقد بأنها مهمة ، حفزتني فوتغرافيات صفاء ذياب عليها وهي الوظيفة الجوهرية للفنان ، ووجدت صفاء الشاعر أكثر ذكاء ومهارة بالتعامل مع الذي تراه عينه. هو الذي يتلاعب بعدسة الكاميرا حتى ينتج نصه الفوتوشعري لكني لم ألمس صفاء الصحفي / السردي في كل مصوراته المتوفرة وهي أكثر من 125 صورة . ولو توفرت لنا فرصة . لإنتاج فوتوشعر لوضعنا مصوراته في وحدة سردية لائقة الشعر رحم يفيض على كل الفنون والأجناس ويلقي بردته عليها . وعلينا أن لا نستغرب من ذلك ، فالشعر هو الذي جعل الزورق العادي أزرق في قصيدة رامبو ولذلك أعاد صياغة الشجرة في العهد الجديد لتتحول مريمية أو هي في العهد القديم علامة للآلهة أنانا / عشتار ، هكذا هي أفعال الشعر والانزياحات .
أهم ما يؤهل الصورة للمثول في ذاكرة تضيف عليها الجمال هو صمتها وسكونها ، بمعنى مكانيتها ، وربما تبدو هذه الظاهراتية ناقصة لأنها لابد وأن تستدعي زماناً لها ، وهو موجود وكامن في ما يحيط بالصورة وما هو ظاهر فيها يشف عن زمانيتها ، أعتقد بأن الفوتغراف أكثر بلاغة من الشريط السينمائي على الرغم من الحركة المتبدية فيه ، حركة التقنية وليس الحركة التي ينتجها جدل الصمت في فضائه عبر دلائل لها حضور كبير على الرغم من صغر مساحتها ، أو زوغانه في زاوية من زوايا الصورة . الحضور لا يتمثل بالمساحة التي هو عليها وفيها وإنما عبر ما يثيره من معان وتفاصيل تأويلية تمثل جوهر الجمال في القراءات الحديثة التي منحت إيقونة أو رقيم عمل على الفخار من زمن حسونة حياة ماثلة وحاضرة وكأن العمل من نتاج اللحظة . ويحتفظ هذا العمل بإمكانات تحفيزية للفنان أو الناقد كي يقول فيه ما هو فعال ومختلف عن الذي كان قبلاً . إن المثول ـ بمعنى القبول المتكرر بالماثل ـ هو الفاعل الجمالي المحفز الحافظ للقيم الجمالية في العمل الفني ولكن علينا أن ندرك ونعي جيداً من أن الفن ابتداء بالفخار وانتهاء بالأعمال النحتية والرسم لا يتأسس على رأي الجماعة ، لأنها لا تعبر عن البلاغة التي من الممكن أن يفيض بها رأي كائن واحد فقط . هذه هي معايير الفرادة التي فتحتها أمامنا فوتوغرافيات شاعر اسمه صفاء ذياب ، ولذلك هو سردي ، لكنه اختزالي كيلا يلتقط غير الذي يعرفه أو يدرك بأنه ينطوي على كفاية الشعر بالذي كان هو عليه وكفى !!
في الصورة الصامتة ، لسان ناطق بالمغيب يتكون عبر الرمز والمكان المحدود جداً ، بحيث تتخلق معان لها حضور يفضي نحو فسحة تخيلها الناظر ، تذهب الى محيط أوسع وأعمق وأكثر بعداً من المحيط المحدود والمقترح له .
مثل هذا الانسياب وما يثيره من تصورات جدلية ، صاعدة ، نازلة هي معيار الصورة المصنوعة وليس الملتقطة . فوتوغرافيات ذياب مصنوعة ، متحكم بها بدقة مثل النص الشعري ، كاشفة عن مهارة العين وحساسية العدسة التي تحوز خاصية اللغة التي تكتب ، مع ملاحظة جوهرية وهي أن اللغة التي تكتب ، يلاحقها المحو إذا عجزت عن أداء المعنى المكتمل ، لكن الصورة ثابتة / باقية ، بالنسخ ضد الزوال ، ولم يعرف تاريخ الحضارة في العالم وجود متحف سياسي للكتاب مثلما هو حاصل للفن وكذلك للفوتوغراف ، التدوين يكرر نفسه باحتمالات كثيرة أهمها التناسق، لكن الصورة ظاهرة على هذه الخاصية ، غير قابلة للتكرر بالتفاصيل ، لان الصورة ومكانها وزمنها واحد غير قابلة للتكرر مرة أخرى ، من هنا تتشكل بلاغتها الممنوحة لها من خاصية فريدة ولا تشترك الفنون مع الفوتوغراف ، لان ممكنات التقليد حاضرة وحاصلة مراراً عبر التقليد والتزوير الحركة تستولدها الأمكنة الواسعة أو الضيقة ، وأكثر الجدليات الفوتوغرافية أثارة للانتباه هي المولدة وسط مكان مخنوق بالأقفال مثلما في عديد من صور الأبواب والشبابيك ، المحفزة للذاكرة والتخيل الذاهب الى ما وراء المستور ، هذا العصي غير المكتشف تخضعه للتصورات ومن التباين بين المحمول والمقترح .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة