خط الحياة في كف القصيدة
ناظم ناصر القريشي
يخبرنا ألبرت أينشتاين أن «الخيال أهم من المعرفة، فهو رؤية مسبقة لجاذبية الحياة المستقبلية» لذا يفاوض الشاعر حبيب الصايغ المستقبل ويقايضه على خياله فيسحبه الى حاضره , مستعيرا ألوانه , و محررا غيومه الكونية فيمنحنا انطولوجيا لأفكاره على شكل “ رسم بياني لأسراب الزرافات ” هذا العنوان الصادم والمخاتل كلوحة سريالية والذي يتعالى على متعاليات جان جينيه سيذوب بعد قليل كساعات دالي و يتوارى خلف موسيقى فاكنر وهي تنبض في القصيدة فيقول في قصيدة ( الصراط المستقيم )
داخلي خارج , فادخلوه لأدخله بعدكم
داخلي خارج ,
و أنا داخل فيه
إني في الخارج – الداخل
الداخل – الخارج
الأول – المنتهى
ماثلا لم أزل كالبكاء
فلا تسألوني الألق المتيبس في داخلي
ثم يقول
أدخلوني إليكم
لأخرج منكم
ولا تسألوني عن الأسئلة
وهنا حيث تتسع العبارة في أعلى معانيها بأتساع الرؤيا كتأويل وكنسق أبداعي , وهذا يجعلنا نتسأل هل القصيدة هي ذات الفكرة على وجه اليقين أم هي تناص لها , أم هي افتراضات لا متناهية في امتداداتها متجاوز الفكرة ذاتها , الشاعر وحده الذي سيجيبنا عن هذا التساؤل وسيجد متعة كبيرة ، وهو يحاول أن يشعرنا بنقاء روحه عبر تجلياته فالشعر كما يقول أودن هو مستودع لضمير الفرد , و الصايغ يجعلنا في أوج لحظته الإبداعية نستوعب أفكاره و هي تتدفق بجمل قصيرة تفيض عن أصلها تكفينا لمعرفة حركة الزمن داخل القصيدة ومونولوجها الداخلي فهو يحيي صيرورته من خلال ما ابتكرته مخيلته الصورية , و هو لا يسأل بل يحاول أن يتوقع الإجابة لذا يحول الزمن الى فكرة تشبه كلماته تماما ,هنا في القصيدة وهي حلمه العظيم حيث تلتقي الكلمات مع معانيها وهي ذاهبة في طريق التأويل فهو يثق بكلماته و ما ستقوده إليه
وهذا ما سنجده في قصيدة ( العبار )
تلتصق الضفة بالضفة حتى ليكاد يكون الجسر
صباح أخر
ليل أخر
شمس محرقة وقيود
بين النقطة والنقطة مجذاف صلب
يتأرجح في الموج الهادئ
من بر دبي الى بر الديرة
نأس يأتون وناس يمضون
وجوه سقم
يحفظ مبروك الأسماء جميعا
ويواصل رحلته اليومية ما بين دبي و الديرة
البحر هنا هو القصيدة و العبار هو الشاعر الذي جذبه الجانب الآخر من الخيال لذا هو يسعى الى اللحاق به و قد تكون القصيدة تجسيدا له في الجهة الأخرى من التأويل .
وسنجد أن كلماته تنضح إيقاعات البحر الذي لا يغادر ذاكرته , البحر ذلك الصديق القديم الذي يتماهى معه ويعيد صياغته من جديد فنشم رائحته على جسد القصيدة حيث يتعقب الشاعر عبر كلماته الغياب والحضور بين الوعي و اللاوعي ، فكل شيء سيان مادام سيتلاشى خلف قرص الشمس
فيقول في قصيدة ( البطريق )
ليس للبحر سوى أن يستقيل , الأن ,
من أشرعتي
ليس للبحر سوى أن يستقيل , الأن ,
من ثرثرتي
ساخطا امضي إليه كالغريق
نادما اسأله عن دفتر ضيعته فيه ,
ولم يرجعه
يا بحري الذي كانت بحري وصديقي
آه .. بحري الذي كانت – على الأيام –
بحري وصديقي
يقول نيتشه : المنفى هو الحرية و انا أقول حرية الشاعر هي القصيدة في معناها الحاضر و المؤجل و المرهون على توقيت الأبداع و نزولا على رغبة التأويل
تشردني في غواياتها ،
فأموت جريحا،
وينكسر القمر الحلو في سقف قبري
وحيدا رأيت النقيض،
فأسرجت طير الأبابيل في المفرد – الجمع،
وانتشرت لغتي في دمائي
شظايا
وحيدا،
الشاعر دائما يحيا لحظته الشعرية حتى وإن لم يكتب فيقول في احد اللقاءات معه ( كل شيء يهيؤني للكتابة ) وهذه الكلمات تذكرنا بقول بيكاسو ( انا لا اكتشف بل أجد ) , (فالشعر كما يقول الصايغ ليس عبثا، إنه قضية حياتي وهاجسي اليومي والتاريخي و أذا كان الأمر كذلك فلابد أن ينتج عن نصي تشرد) .
فيتمنى على قصيدته (حبيبته) أن تعيده الى سيرته الأولى
وأعيديني الى سيرتي الأولى
دمي الكهل تولى
قطرات
قطرات
وغدي يبدأ من يومك
إذ يبدأ طول اليوم ,
إذ لا ينتهي فانتبهي
لذا نجد القصيدة لديه في مبتدئها انتشاء في بعدها الميتافيزيقي الذي يحاكي صفاءها في اصطفاء اللحظة سواء بصوفيتها أو سرياليتها ساعة الكتابة , و الكلمات بطاقتها الإيحائية هي استعادة لتلك اللحظة لإنجاز المعنى يقول الشاعر جون كيتس( إذا الشّعر ُ لا يُولد ُ آنيا ً كأوراق الشّجر، فمن الأفضل أن لا يولد أبدا ً).
أذن للغة الشاعر قيمة جوهرية كبرى تتماهى ، أثناء تدوينه القصيدة مع فكرته وروحه و مبتغاه ، وتجانس اللفظة مع رؤيته خلال انفعاله اللغوي الزاخر بالمعاني والدلالات عند اشد لحظات تواتره الإبداعي , فينثر الشاعر كلماته فيبزغ من نثاره أسراب الضوء كأنها تتنفس الصبح الذي تنفس الضياء، فيلمع في عيوننا بريقها سحر و جمال , و هذا الجمال يكمن في أنه أتى بروحية اللحظة الشعرية ذاتها في بهائها اللانهائي كأنه امتداد للروح الشاعرة , فهو يعرف كيف يمسك الأفكار وكيف يحولها الى قصيدة ناضجة ممزوجة بقلقه و هواجسه كإنسان و شاعر و أن ثمة توقا حقيقياً لديه أن يرتل روحه فيها فيقول في قصيدة (رسم بياني لأسراب الزرافات)
«راكضة
تموت أشجار الورد
وهي تطارد رائحتها المذعورة الهاربة
وتموت أشجار الصبار وهي جالسة القرفصاء
لأن ثمرة الحيرة بطيئة في النضوج
وعلى غير عادتها في الحياة تموت أشجار المشمش مستعجلة
حتى لا تؤجل موت اليوم الى الغد.
وهنا لغة الشاعر وكما يخبرنا أدونيس، هي مستودع للمجاز وحركة نفي للموجود الراهن بحثًا عن موجود آخر فنقرأ في قصيدة ( خطوت )
هذا النهر لم يكن موجودا من قبل
ترى كم تضيف
خطوات تلك الصبية الرائعة
الى الأرض
هذا النهر لم يكن موجودا من قبل
أما ذلك الجبل
فقد كان موجودا
لكنه كان دائما
يفضل أن يرتدي
طاقية الإخفاء
فالمكان هنا هو ميتافيزيقي أكثر من كونه جغرافي و الزمن كذلك بحضوره وغيابه , والذي يعني للشاعر زمن أخر ؛ زمن موجود في قصيدته هو يبتكره ويشكله من جديد و يتمرد عليه , و قد يتشظى وجوده في أزمنة عدة في أن واحد لذا نجد لغة الشاعر تطابق تماما لما سعى إليه فهو لا يبحث عن المعنى بل تأويله أو حتى في نفيه ,فيأخذنا الى الضفة الأخرى ويمنحنا شعورا بالتسامي و نحن نتأمل كلماته في هذا التماثل البنائي الخلاق بين اللغة و الفكرة بين الشكل و المضمون فهو يمنح لغته جناحي نسر و عصمت شجرة وسلاسة المطر فيقول الصايغ في قصيدة ( الرأس )
أين نذهب ؟
بين الحنايا جسور
وبين الجسور جسور
وبين حنايا الحنايا انحناء
السماء
نماء وماء
الطيور
تسافر ولا تسافر
تبدأ أعراسها,
ويداهمها في أقاليمها موتها والغناء
و إذا نظرنا الى شاعرية الصايغ وحاولنا سبر أغوارها ، و استنطاق جوهرها الإبداعي، فسنجدها تهدف الى تأكيد ذاتها و زهوها في حضورها المتحقق ، وسنجد أنفسنا نتتبع خط الحياة في كف القصيدة الذي من الصعب تتبعه . لشاعر فريد و عميق التفكير ومحمل دائما بالرؤى والاندهاش و الابتكار والذي سيقودنا إليه وعيه بالكتابة الشعرية
ديوان “ رسم بياني لاسراب الزرافات” الصادرة عن دار الانتشار العربي 2011