أ.د. جاسم حسين الخالدي
لم يعد النقدُ تابعاً للعمل الإبداعي، أو ذيلاً، أو هامشاً، ولكنه في المقابل ليس وصياً على المبدعِ أيٍّ كان توجهه، فثمة منطقةٌ متاحةٌ لابد أن يلتقيان بها، ويتعايشان في فضاء من الإنسجام والتعاون المنتج، فلا علوية لأحدٍ على الآخر، ولا نسمع الأسطونة المشروخة الإبداع سابق على النقد، ولولا الإبداع لما كان النقد، وغير ذلك مما يفصح عن عقليّة غير سوية لا تعيشُ في نزاعات واستحواذ وصراعات قبلية لا تختلف عن تلك الصراعات الإجتماعيّة التي مازالت مجتمعاتنا ترزح تحت أعبائها وتنوء بحملها. وهي تؤشر في الوقت ذاته، أن ثقافتنا العربيّة بشكلها الأعم هي ثقافة صراعات، وتناقضات، وانقطاع لا ثقافة تواصل وتراكم وبناء.
لقد صار النقد نصاً آخر، ينمو ويتطور في فضاء من التميز، فليس من النقد بشيء أن يبقى الناقدُ في حدودِ النصِ المنقودِ، يدورُ حيثما دار، ويردد أفكاره وعباراته، بلغة بليدة، أو عبارات رنانة، مستفيداً مما يمتلك من خزين لغوي، لكن ليس بعيداً عن الابتكارات الابداعية التي – هي بالتأكيد – تخلق ابتكارات نقدية» والأمثلة كثيرة.
إن جلَّ ما ننشده في الدرس النقدي الجديد أن يكون شريكاً للمبدع في ما يكتبه، وموجهاً له، لا قامعاً أو سيفاً مسلطاً، مثلما يفهم ذلك بعض النقاد، حين يضيقون على المبدع ويحدون من مناطق إبداعه، أو مثلما يظنُّ بعض الكتّاب، أن الناقد مبدع فاشل شاعراً كان أم سارداً، فكيف لفاشل أن يعدل خطاً ابداعياً، ويهبك نظرية نقدية.
وفي إطار تلك الرؤية الحديثة للنص يقدم لنا الناقد ياسين النصير درساً نقديا هو بمثابة وصايا نقدية من ناقد معلم إلى المبدعين والنقاد على حدٍّ سواء، مفادها أنَّ «النقد في كثير من أحيانٍ كثيرة هو الذي يؤثر في الكاتب، وهو الذي ينبه المبدعين منهم إلى ماهو جذري في فنهم، وهو الذي يحدث التفاعل الايجابي أو السلبي عند الكاتب»الرواية والمكان: 69.
وهنا يبدو دور النقد أكثر حين يتوجه الناقد إلى النصوص الإبداعية لا برؤى مسبقة او جاهزة استعارها من هذا الناقد أو ذاك ويحاول اسقاطها عنوة على النص الذي يستهدفه بالنقد، وهنا تبرز وصية أخرى، مفادها أن الناقد حتى وإن استلهم فكرة أو موضوعاً فلابد أن يتجازوهما إلى النص المنقود، لأن الأخير هو الميدان الذي تولد منه الخصائص الفنية والقيم الإبداعية.
وهذا الامر سواء بالنسبة للمبدع والناقد، فلا أحد ينكر أن جذور الحركات التجديدية العربية كانت بدوافع غربية، لكن لم يستكن لها مثلاً السياب وزملاؤه ؛ إذ نجحوا في تحرير قصيدتهم من تلك النزعة التأثيرية « ليصبح شعر عربياً قلبا قالباً» الرواية والمكان: 70.
ونستكمل تلك الوصايا بوصية لا تخرج عن حسٍّ وطني تجاه الرواية العراقيّة، وهي أنّه يدعو النقاد إلى قراءتها والوقوف عند الظواهر الفنية والأسلوبيّة فيها، وعدم التعامل» مع الرواية من خلال منهجية نقدية سلفية».
فالرواية العراقية تمتلك» خزيناً من الحياة الحية المتجددة، فلو نظر النقد إليها من مستويات مختلفة لاستخرج منها العديد من الثروات الفكرية» الرواية والمكان: 68.
تلك النظرة الإيجابية للرواية العراقية، القائمة على القراءة والاستنباط، لا القراءة المندفعة التي تبنى على النظرة السطحية والاطلاع المحدود على الابداع الروائي، تبين أهمية الناقد الفاعل في الوسط الابداعي، الذي يمكن أن يكون نصه محايثاً للنص المنقود، ومن ثم يخلق جدلاً منتجاً بين المبدعين من جهة والناقد من جهة أخرى، ولا يعنينا ايجابته أو سلبيته بقدر ما يعنينا هذا التشابك الجمالي بينهما الذي يؤكد» أهمية النقد ويجعل منه مستوى آخر للفعل» الرواية والمكان:69.