د. عبد العظيم السلطاني
كثرت التكهّنات حول مستقبل الشعر، وحول التاريخ التقريبيّ لانقراضه. وأكبر الظن أنّ انقراضه النهائي المُفترَض، سيبقى مرتبطا بتاريخ انقراض الإنسان نفسه. فالشعر سيكون موجودا حيث وجد الإنسان على هذا الكوكب، كائنا له عاطفة، وله موقف، وفي نفسه فسحة من توق دائم إلى التعبير الجمالي المكثف من خلال اللغة. وعلى هذا الأساس سيبقى نبض الشعر في الحياة على الرغم من كل التحديات التي أفرزتها التحوّلات التي حلّت بالواقع الثقافي ونظرته للنصوص ((النبيلة)) – وفي مقدمتها الشعر- من حيث تاريخ تعاليها، ودرجة توقيرها. وكلّ ما يواجهه الشعر من تحدّيات سيتعلق: بشكله الفني وكيفيّات صياغته، وبطريقة تعاملنا معه وبنظرتنا إليه، وبطبيعة الموضوعات التي نزجه فيها، وبالوظيفة التي يُراد له أن يؤديها. وقد يكون ما يُنشر من شعر رديء مصدرا ينفّر الناس من الشعر …الخ. وهذه كلّها تحديات تواجه الشعر، لكنها لا تهدّد روح الشعر وجوهر وجوده. بل تهدّد أشكاله المألوفة، وقد تُميت أو تُحيي أو تُبدع أشكالا جديدة. وقد تؤدي إلى بعض الابتعاد عن الشعر، أو تراجع دوره، في مجتمع معيّن ومرحلة معينة، تطول أو تقصر.
ومثلما توجد تحديات تواجه الشعر فهنالك تحديات تواجه درس الشعر، ومنها ما يتعلق بدقة إنتاج المصطلحات ودقة استعمالها دالة على المفاهيم. فالمصطلحات مفاتيح الفهم، وأنواره الكاشفة، وبغياب دقتها تستمر العتمة ويستمر التخبّط. ومن أبسط شروط وجود المصطلح، قدرته على الدلالة بدقة، واشتراك أذهان المتلقين في فهمه، على نحو واحد محدّد.
*** *** ***
مصطلح ((الشعر الحر)) واحد من أبرز الأمثلة الدالة على واقع الارتجال في إنتاج المصطلحات واستعمالها، في درس شعرنا الحديث. وهو مثال على ما يمكن أن يؤديه استعمال المصطلح غير الصحيح، من تشويش دلالي وعشوائية في الفهم. فهذا المصطلح كثير الدوران في المدونات التي تدرس الشعر العربي الحديث. وهو يشير اليوم بشكل مباشر إلى تلك التجربة الشعرية التي كسرت حاجزا استمر وجوده أكثر من ألف وخمسمائة عام في الثقافة العربية. فكانت قصيدة التفعيلة عام 1947، مسجلة باسم نازك والسياب، لأنّهما نشرا قصيدة التفعيلة بفارق زمني بسيط لا يكاد يذكر، وإن كانت هي الأسبق بمدة أسبوعين. واستمر إلصاق المصطلح بكل تجربة شعرية حذت حذوهما في الاقتصار على التفعيلة مُحددّا وحيدا.
كتب أكثر من كاتب ومنذ وقت مبكّر عن إشكالية مصطلح ((الشعر الحر)) وتاريخه في الغرب وتاريخ حضوره في الثقافة العربية منذ الثلاثينات، وكتبوا في دلالة المصطلح وخلل التصاقه بقصيدة التفعيلة ليكون دالا عليها، وعلى أي نوع هو ينطبق حقا، فهو أقرب في دلالته على قصيدة النثر…الخ. ولعل في طليعتهم جبرا إبراهيم جبرا، وآخرون منهم طراد الكبيسي.
إنّ تصفّح المجلّدات الأربعة لمجلة ((أبولو)) وحدها، يشرح بجلاء أنّ مصطلح ((الشعر الحر)) كان حاضرا في ثلاثينات القرن العشرين، وكان دالا على شكل شعري آخر غير شعر التفعيلة. ففي بدايات الثلاثينات حين كنتَ تقول: ((الشعر الحر))، ينصرف الذهن إلى ذلك النوع من الشعر الذي دعا إليه أحمد زكي أبو شادي ومارس كتابته في بعض النصوص ذات النفس المسرحي. بل إنّه استعمل مصطلح ((الشعر الحر)) عنوانا لمقال قصير، يرد به على أولئك الذين انتقصوا من هذا الشعر الذي أذاعه في مجلة أبولو التي يرأس تحريرها، وجاء فيه : ((إن روح الشعر الحر free verse إنما هو التعبير الطليق الفطري كأنما النظمُ غيرُ نظم لأنه يساوق الطبيعة الكلامية التي لا تدعو الى التقيد بمقاييس معينة من الكلام، وهكذا نجد أن الشعر الحر يجمع أوزانا وقوافيَ مختلفة حسب طبيعة الموقف ومناسباته فتجيء طبيعية لا أثر للتكلف فيها)) (مجلة: أبولو، ع10/مج2/يونية 1934/ص1229) . فعنده مصطلح ((الشعر الحر)) يُطلق على الشعر الذي لا يلتزم في القصيدة الواحدة بوحدة القافية ولا يلتزم بوحدة الوزن. فيغيّر في القوافي ويمزج بينها، ويمزج بين البحور. لتكون فكرة المزج جوهره وأساسه. لذا هو يمثّل لحظة تطوريّة، جاءت لاحقة لما يُعرف بـ ((الشعر المرسل))، الذي لم يكن يطمح لأكثر من كسر وحدة القافية في القصيدة. وفي مقال آخر قال أبو شادي مشيرا إلى تجربتين في الكتابة الشعرية: ((وقد قام عبد الرحمن شكري كما قمنا من قبل بنظم الشعر المرسل، وأخيرا بنظم الشعر الحر)) (مجلة: أبولو، ع2/مج2/اكتوبر 1933/ص90).
فالشعر العربي المنظوم الحديث بحَثَ عن الجديد في بعض أطوار وجوده. فهنالك شعر كسر وحدة القافية، وكان مصطلحه ((الشعر المرسل)). وهنالك شعر كسر وحدة القافية مثلما كسر وحدة الوزن في القصيدة الواحدة، وكان مصطلحه الدال عليه: ((الشعر الحر)). ثم تدرّجت الغاية ونما طموح التجديد، فكانت قصيدة التفعيلة، التي تخلّصت من حتمية القافية وحتمية وحدتها، وتخلّصت من حتمية عدد التفاعيل في البيت الواحد، ليكون البيت سطرا شعريا جوهره الالتزام بوجود التفعيلة، لا بعددها المقنن عروضيا. لذا فهو كيان بخصوصية، قد لا يشبه سابقه أو لاحقه من الأسطر.
وكان يُفترض بهذه التجربة المغايرة لتجربة أبي شادي وغيره، أن تأخذ اسما جديدا غير ((الشعر الحر)). ليُميَّز هذا الشعر الجديد عن نوع الشعر السابق له. لأتها بهذه التسمية ستبدو وكأنّها النسخة الثانية من الشعر الحر السابق لها. في حين هي تجربة مستقلة من حيث الشكل والغاية. وكان يُفترض أن يولد لها مصطلح نابع من رحم التجربة نفسها، لا أن يُستعار لها مصطلح دال على تجربة أخرى سابقة.
مثلما كان مصطلح ((الشعر الحر)) غير دقيق في دلالته على تجربة أبي شادي أو غيره، فهو ،أيضا، غير دقيق في الدلالة على تجربة نازك والسياب ومَن تبعهم. فكلمة ((حر)) يقابلها ((مقيّد))، وأن يكون الشعر حرّا يعني أنّه يرفض أي قيد. وإن هو أبقى على أيّ قيد فحريّ بأن يكون المصطلح على هذا النحو: ((الشعر الحر المنقوص)). واعتمادهم على التفعيلة صيغة في جوهر وجود النص الشعري يعني أنّه ما زال مقيّدا وليس حرّا. لذا فهو ((شعر التفعيلة))، وليس ((الشعر الحر)). وحري بالشعر المنثور أن يستحوذ على مصطلح ((الشعر الحر))، وحري بقصيدة النثر أن تنتمي إليه. فهي حرّة من كل صيغ الوزن والقافية. ومثل هذا الكلام كان وما يزال يقول به أكثر من كاتب وباحث، ومنهم من أشرت إليهم آنفا. ولكن على الرغم من كل هذا مازال هذا المصطلح حاضرا وبكلّ ما يثيره من إشكالية في الاستعمال. لأننا مستظلون بظل ثقافة الانجرار، وعدم التدقيق. لذا مازالت كتبنا تعج بمصطلح ((الشعر الحر)) دالا على قصيدة التفعيلة، وما زلنا متورطين في تسمية أخرى خاطئة وهي قصيدة النثر، كي نميّزها عن الشعر الحر. فكيف هي قصيدة وفي الوقت عينه هي نثر؟! ولماذا لا تكون تسميتها ((قصيدة حرّة))؟! ولماذا لا يسمى هذا النوع من الشعر ((الشعر الحر))؟!. فهذا المصطلح لم يولد في رحم تجربة شعر التفعيلة ليكون دالا على هذا النوع من الشعر. هذا أولا. وثانيا: هو مصطلح غير دقيق في دلالته، على تجربة الشعر في نهاية الأربعينات لدى نازك والسياب، مثلما لم يكن دقيقا في دلالته على تجربة أبي شادي السابقة. وثالثا: إنّ استعمال هذا المصطلح يمكن أن يؤدي إلى تشويش الفهم، حين يستعمل معرفيا، في درس التأريخ الأدبي، حين يتناول تجربة تطور الشعر العربي الحديث. فهو- أي المصطلح – لم يعد دالا الدلالة نفسها في أذهان المتلقين جميعا. لأنّه أصبح لدينا مصطلح واحد هو ((الشعر الحر)) ويدل على تجربتين شعريتين مختلفتين. لذا هو مصطلح عشوائي لم يخضع لتخطيط أو تدقيق. واستمرار وجوده في درسنا الأدبي بدلالته الخطأ تعبير عن سلطة الثقافة وقدرتها على الحماية. فمازالت ثقافة الانجرار وراء الشائع والمُشاع تحميه وترفده بالحياة. وما زالت تلك الثقافة تشوّش على الأصوات المعترضة عليه، وتُعيق طموحها في أن تكون هي الصوت السائد، وغيرها شاذ لا يُعتد به.