فن التفريط

لا حدود للفنون والعلوم التي عرفتها المجتمعات البشرية، وهي في طريقها نحو التطور والازدهار تواصل إبداع المزيد منها، إذ يرافق مثل هذه الحيوية نمو مضطردا لمستوى العيش والأمن والاستقرار، وهذا ما عرفناه لا من البلدان التي شهدت الثورات العلمية والقيمية في العصر الحديث وحسب، بل فيما عرف عن سكان هذا الوطن القديم قبل آلاف السنين، حيث باكورة الفنون والعلوم التي دونتها رقمهم الطينية. مثل هذا النشاط والاهتمام تحول الى نوع آخر من الفنون يختلف تماماً وذلك الإرث المشرق في الريادة ببناء الحضارات البشرية؛ وهو ما يمكن أن نطلق عليه بـ (فن التفريط) وهو مزيج من الفزعات والدقلات القادرة على تحويل أفضل الفرص والثروات والمواهب الى سلسلة من النكبات والخيبات، من دون أن تترك أثراً في وجدان وعقول وذاكرة المولعين بمثل هذه الهوايات القاتلة. هذا “الفن” تحول بعد عقود من الهزائم والخيبات الحضارية، منذ صيروة “جمهورية الخوف” على أنقاض الجمهورية الأولى، حتى يومنا هذا بعد استئصال ذلك الورم السرطاني؛ الى ما يشبه الطقوس التي تمارسها الجموع بشكل لا إرادي. بعد سلسلة الحروب العابثة (الداخلية منها والخارجية) سٌحقت بشكل لا مثيل له الكثير من المهن التقليدية وتلاشت تدريجياً المهارات في شتى الحقول، ليزيدها بؤساً ما رافق “الفوضى الخلاقة” من استباحة واسعة وشاملة لبضائع دول الجوار وما بعدها للسوق العراقية الفاقدة لأبسط أشكال الحماية أمام مثل هذه الحملات الشرسة والمنظمة.
من الصعب العثور على بلد اكتسحته لعنة الهدر والتفريط، يمكن أن يقارن مع ما حصل لدينا من كوارث، إذ تحولت نعمة الموارد الطبيعية وعلى رأسها احتياطات النفط والغاز؛ الى لعنة بيد قوافل القوارض التي تلقفت مقاليد الأمور فيه طوال أكثر من نصف قرن من تأريخنا الحديث. لم تردعنا التجربة المريرة لما عشناه جميعاً مع سياسات ومغامرات النظام المباد، عندما أهدر موازنات تكفي لإعادة بناء بلدان ومدن جديدة، ومستويات للعيش لائقة بكل مستلزماتها المادية والقيمية، على مغامراته وحروبه العابثة؛ لنجد أنفسنا مجدداً نخوض في مستنقعاتها الآسنة، وما مثال داعش حزيران العام 2014 وما لحق بنا من خسائر بشرية ومادية إلا مثال واضح على ذلك، إذ تقدر الحسابات الأولية للأضرار المادية بما يقارب المئة مليار دولار، وهذا المبلغ وحده بمقدوره إحداث نهضة علمية واقتصادية واجتماعية إن وضع تحت تصرف أيادٍ وعقول غير ملوثة بالشراهة وضيق الأفق. التحدي الذي يواجهنا اليوم لا ينحصر في الأرقام الفلكية من الثروات البشرية والمادية التي أهدرت وحسب بل في ملفها المفتوح على المزيد منها، حيث المعطيات لا تؤشر الى نهاية قريبة لهذه الحلقات المميتة من الاستنزاف، كما أن الحديث عن مشاريع للتنمية والاستقرار بعد حسم المعركة العسكرية مع داعش، لن يختلف مصيرها عن سابقاتها، من دون الالتفات لهذا الخلل البنيوي المتربص بكل أنواع الموازنات والأجيال الجديدة من الديون، والتي قاربت المئة مليار دولار بوقت قياسي. مع مثل هذه الطقوس والتقاليد في الهدر الشامل، ومع مثل هذه المواقف اللا مسؤولة من الثروات لا يمكن انتظار ولادة عراق جديد ومعافى من تحت أنقاض كل هذا الخراب..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة