) داريو، كل شيء انعقد وارتبط بك. أنت الحاء، أنت الباء(
عبيدو باشا
نجا هؤلاء من رعب المراحل الماضية. انفجروا كنجوم على المحاور بين المناطق المتقاتلة. لم يحتفظ من لهم أسماء ومن فقدوا أسماءهم بحرارة أجسادهم، حين رسبوا أمام المفاجآت والبراكين على الأرض والشهب الطائرة بالسماء. لم يلبث، من وجد بأيام السلم، أياماً فانية، أن أخذه الإحساس المدوخ بالتغيير، إلى الاشتباك. خالد الهبر وأحمد قعبور وحسن ضاهر وطوني وهبي ونصير الأسعد وفواز طرابلسي ورئيف كرم والياس خوري وغيرهم. هكذا انتصروا على العقبة الأخيرة. الحرب كرتيلاء ثقيلة على البعض. الحرب خزان متورم بالفساد والكبت والفروقات الاجتماعية، عند البعض الآخر. أصاخوا السمع مطولاً. وإذ انتبهوا إلى أصوات الطبقات التكتونية المتحركة، امتلأت نوافذهم بالنهارات والمهارات ولهيب الأنفاس المنتظرة منذ سنوات. خرجوا من الحفر الخاوية إلى العالم. وجدوا على خارطة العالم. سامحوا الغضب القديم، عديم الإهتمام بالثورة، وانطلقوا إلى حيث الأمل. مزجوا لمعان العالم بلمعان عيونهم. لم تعد تجارب الطليعة بالظل. مايرخولد وماياكوفسكي ومنوشكين وآبيا وكريغ وفاختنكوف وبروك وبوشكين وغيرهم. دار بريشت بصالات المسرح كما لو أنه بنت جميلة. دار بيتر فايس بشوارع بيروت على وريقات البلاد العطشانة للتغيرات الجذرية. اندلعت الأسماء كالنار. جوليان بيك وجوديت مالينا، البريد أند بابيت (خبز ودمى(، مسرح الأندرغراوند، مسرح البورديل الراقي. الفودفيل، الكاباريه، التقويل، البولفار. المسرح رجل الحرب.
الحرب امرأة المسرح. كثر الرجال بالحرب. التشكيل، الأغنية السياسية، الشعر الجديد، الرواية، القصة القصيرة، السينما. خصَّبت الحرب أشكال التعبير. وأطلعت بعض الأشكال الأخرى من ضربات الوسوسة، برؤوس أبطالها، إلى الواجب الأول. تجربة الأغنية السياسية، زهرة الحرب العظيمة. زهرة بساقين متدلليين. مارسيل خليفة، خالد الهبر، أحمد قعبور، أسامة حلاق، حنان مياس، أسامة ومروان غندور. غازي مكداشي، راعي الأغنية السياسية الأول. سمكات ذهبية في مستنقعات الدم وحقول الأحلام.
الحرب سلة مليئة بكل ما هو موجود خارج السوق. ماتت الأحاسيس المغشوشة بالأغنية السياسية. لا شيء بالصوت الجميل، سوى بسمة خاطفة. المهم، عدم الوقوع بالنشاز. سوف تجاور أزهار الهندباء الأزهار الملونة بحقل الأغنية السياسية. الكورس صوت الجماعة. الشعر الجديد، حنجرة الأغنية. الصوت سيّد الآلة.
وجدت، على هامش تجربة الكورس الشعبي، مع غازي مكداشي، عشرات الفرق بأحجام ملوّنة سيالة. كأنها خرجت من علب هدايا منسية عند شجرات ميلاد. خالد الهبر والفرقة، مارسيل خليفة وفرقة الميادين، سامي حواط والفرقة، فرقة اسامة حلاق. أحمد قعبور والفرقة. طلعت «فرقة السنابل» من كوم الأنفاس الحمر بالكورس الشعبي. تجربة مسرح الأطفال الجديد. «السنابل « أولاً. ثم، «صندوق الفرجة « مع نجلا جريصاتي خوري وبعض حادقات الأطفال بمدرسة مدام فالانغا. ثم، فرقة بول مطر، العصرية، الفراشة. عشرات الفرق على طول البلاد وعرضها، بعد أن حاصرت مغامرات نبيل الساحة اللبنانية، كنبات راح يذبل تحت شمس الأيام الأخرى.
ساد مسرح جوزيف فاخوري الساحة على مدى عشرات السنوات. كشفته الحرب على التعليم لا التربية. ذلك أن التجارب الجديدة، حملتها المناهج الطليعية بالعالم.
بدا نبيل كفقير منجد بالمخملِ. مسرح بلا تميزات. دوره: إعادة انتاج الأيديولوجيا السائدة. النظافة والاجتهاد المدرسي وطاعة الوالدين. دورة واحدة. جاءت، بعدها، سبعون دورة. أكثر من مئة فرقة مسرحية. فرق هواة وفرق محترفين. دردمة و همهمات، ثم انفجر «مجمع الفضلات الفاضلة». نطت الحرب على أعمدة المرحلة الذهبية بتاريخ لبنان، حتى وصلت الحرب إلى الحرب. انفجر العجز القديم بالفضاء الجديد. انتصر على كل الرفوف المنطوية على كميات من الغبار. غبارٌ غبار. لا غبار طلع. انتصر الأحياء على الأموات. بالحرب، صرخ اللبنانيون بأنهم أحياء. بعضهم، بعد أن حولوا تجاربهم من تجارب ظلال، إلى تجارب أعمدة. بعضهم الآخر، إثر النجاة من قذيفة مدفعية، سقطت على الجدران أو السقوف، بلا مواعيد جاهزة.
الحرب حياة رفيعة. حياة الثقافة الرفيعة. حياة الفنون الرفيعة. بعد أن شد الفنانون والمثقفون أقواسهم وأطلقوها من الفؤاد إلى الفؤاد. الحرب مصاصة السوابق. لا تنويمة التمدن والحضارة. حدث إنجازي، إحيائي، بالإيماء والتلميح والتحول. تدفق غنائي على رياح التغيير.
مشاطرة الملك جلالته، مشاطرة الملكة حضرتها. كل الملوك والملكات. توحدت، على قوس الحرب، كل الآفاق الرمزية والآفاق الواقعية والآفاق الخيالية، وهي تنصهر بالدعائم، بعد أن غرزتها بالأرض الخصبة. كل شرط بالحرب، شرط مجهض. اتضحت ملامح السنوات الماضية بسنوات الحرب. اتضحت عناصر السنوات، أدوات السنوات، بكل صفاتها المؤثرة. النوايا حرةٌ، بعيداً من مواقع الإنتظار.
ثقافة الحرب ثقافة ما سبقها وما تلاها بالثقافة الجارية بالأشياء والكلمات والأيام. كما يجري الموت بالميت. الجماعية واحدة من تأشيرات الحرب. جماعية الأداء بالأغنية السياسية. جماعية الكتابة والإخراج بالمسرح. الجماعية بالرسم. تحيين الرؤية، تتولاها الأيدي، بتجربة قادها سمير خداج، برسم لوحة بعشرات الأيدي. الجماعية في مسرح الأطفال. أكثر من كاتب للنص الواحد. أكثر من ملحن. أكثر من رأي بالإخراج. نكئت جراح التطريب والخيط الناظم له بالأغنية. الأداء بالمقدم.
أنجزت الحرب بسرعة ما حضرت له المراحل السابقة، بهدوء وصبر عظيمين. أجابت الأسماء الكثيرة عن طرق الأغنية السياسية على وميض الأحلام القديمة. تولى خالد الهبر مهمة الخروج من التجنيد الإجباري بالجيش اللبناني، لكي يعانق رؤاه. أقام طقس ولادة الأغنية الجديدة. اشتق أحمد قعبور بعض أبرز الأسماء الفرنسية، من دون أن يروم دراسة أساليب التأثير. الموسيقى ونجاعة الكلمة في أغنية جاك بريل وبراسينس وفيرا وفيرو وغيرهم. استبشر من خلالهم طرق الوصول إلى أغنيته. انصهر بعناصر أغنياتهم، بعد أن أدى أغانيهم باللغة الأم. ثم اندغم بعمره الجديد مع « أناديكم « وأغنيات شريطه الأول الأخرى. فتق مارسيل خليفة حضوره بعمشيت على الصراع مع الأحزاب اليمينية هناك. هُجِّر إلى فرنسا. لم يعد إلى لبنان إلا على «وعود من العاصفة .»
لم يتوقع الكثيرون أن تنبض الكيمياء بين هؤلاء وبين من تبعهم ومن سبقهم. طوّقوا الأفكار المستهلكة بالأغنية غير المستهلكة. الإثراء هي الصفة الأساسية مع شعراء الجنوب. إيقاعات الفهم بالمشاغل الراهنة. كثر الشعراء ولم يبق الشعر نقطة احتمال عائمة فوق أرض الصراع. فاضت الرواية بالنقاط الجديدة. رواية الياس خوري وحسن داوود وجبور الدويهي وغيرهم. مزج المسرح الهوية باللذة. لم تشغل المسرح فكرة الموت. بالعكس. طرق المسرحيون على سندان اللغة، على فكرة التحرر من الأطواق. استبطنوا زخماً إيقاعياً وشحناً عاطفياً، ترتب على دمج الواقعي بالتأمل العرفاني وغير العرفاني. شيء من نماذج الشعراء الصعاليك. كلما حكوا جسماً قشروه وكشفوه. ثم، لم يلبثوا أن ملأوا بياضات المرحلة الجديدة، بكل ما اسهم بتحولهم من الإنفعال إلى الفعل. عشرات التجارب تفك كل ما ليس واضحاً بالحياة. عروض بالغرف المغلقة، بالساحات، بالمستشفيات، عند خطوط التماس. عروض شارع.عروض دمى عملاقة. هنا، أخصبت الأحلام والأجساد. هنا، تزوجت الجراح الأحلام. وصلُ الأضلاع، مباشرة، بالكون. لم يعد أحد يحتكر المناطق. الجامعة اللبنانية واد بنفسجي، يقدم ما لا يخبو لمعانه. ارتبط كيان الجامعة بكل حقوق العيش. لا محظور بعد. منحت الحرب الحرية الكاملة بالعلامة الكاملة، لكل حروف المدينة الجديدة. قراءات بدفاتر العصيان، لا قراءات بدفاتر المعصية. البون شاسع بين الإثنين.
الحرب والثقافة، الثقافة والحرب. لم ترتضِ الحرب الثقافة كصديقة. وبالعكس. اتحاد جسدين على طريق الإنجاب، على البعد السيكولوجي للإتحاد والإنجاب. حيث الحب اتحاد والإنجاب ليس نتيجة. وحيث البعد الإجتماعي، إذ يتم الإعتراف بحقوق الزوجين والأولاد. وحيث يتم ذلك، يتم الإنسجام بين عناصر المجتمع، ما يدفع إلى دوران عمليات نموه. عمليات نمو، على البعد المقدس لاتحاد الجسدين/الروحين. لأن الإنسانية لا تكتمل إلا بالحب، لدى كل واحد من المتحابين. عطف ذلك على الإنسانية الشاملة، يفضي إلى أن يربي العنصر الآخر، ككائن مقدس.
الحرب هنا كائن مقدس، لأنها بدت، بتلك المرحلة، أقدس هدايا الحكمة. الحرب هي المعنى. معنى يطلبه الواقع. تم تجسيد الأمر، لا بالقواعد الغابرة والقواعد الميتة واللياقات. بالتبادل. بالحوارات الجدلية بين الحرب وبشر الحرب، وصولاً إلى التعبيرات المنظمة والممنهجة. لم تدر الحرب حول نقاط رئيسة. دارت حول كل شيء. لن تنطوي المرحلة من دون تعارضات. تم استخدام ذلك، بخدمة الغاية الوحيدة. كتابة حياة جديدة. كتابة بالحرية القصوى. لا اتباع طرق. ابتداع الطرق.
حكمت الحرب على لبنان بحرية واسعة، أخلصت في خدمة مصالحها. لم تسعَ إلى الإرتباط بالحريات القديمة. غير أنها ارتبطت بها لا بوصف الإرتباط وظيفة، بوصف الإرتباط قدراً. الحرية عقيدة لبنان. الحرية عقيدة اللبنانيين. هكذا أضحى المسرح، عبيدو باشا* امتلكت البلاد بؤبؤين سوداوين، عند من رآها تسقط بقلبها. وجدها آخرون محشوة بشرارات الدوران العنيف على التحام القلوب والإبداع. امتلكت البلاد بصيرة، لا بصراً، عند هؤلاء. نشجت البلاد بالأمطار. تنفست عن عشرات الفصول المؤجلة. ذلك أن الصراع، لن يعتكف – بعد – بطبقات البلاد الأرضية. غاب البعض عن الوعي ببدايات الحرب. وجدوا أنفسهم على خطوطها المرتعشة. وجدوا بالحرب كل ما هو مبهم، كل ما هو مجهول. غير أن آخرين، وجدوا بالحرب تثاؤب البلاد بالضياء. هذان مثالان ساطعان. سار الكثيرون على سطوح النسيان. داروا على أيامهم، كمن يسير بنومه. حسبوا أنهم لن يعيشوا في مأمن ولا في واجب قديم. سيطر الهول عليهم، إذ وجدوا فيها نشيداً قبيحاً. انضوى من برؤوسهم الأفكار والأحلام بالحرب. تفتحت عيونهم وأجسادهم، أولاً، على حيرة بريئة. ثم، على الكثير من تورم البلاد بالطغيان. وجدوا بالحرب أيام بلوغهم. لن يقعوا بالذوبان ببساطة العقل الفجة ولا بالبكاء. ذاك عصر الغناء. وجد روجيه عساف على الكمائن في منطقة الشياح. انفجر نجمه هناك، يحفر ويبتهج بكل دورة قتال. هذا موسمه. هذا موسم من وجد الجوهر على سلاسل أجنحة الحرية بالمآثر البطولية الخاصة بها.
غابة وحشية، ضاعت فيها جيوش المسرح القديمة. الجيش اليوناني، الجيش الروماني، الجيش الجرماني. الكثير من الجيوش. لا تعادل بالقسوة، حيث زرع المسرح بساتينه بأجمل وأطيب الخضار والفاكهة. منصة واحدة أولاً. ثم، منصات. امتد المسرح كأفق، على أفق البلاد الجديد. لا كنافورة. الرسالة الأولى سرد حكايات الآخر، عبر آلاف النقاط الجديدة.
لن يقع أحدٌ بعد بفخار اللغات الشمولية. لغة الناس لا لغة الفوهرر. أضحى المسرح القديم، جدة قاتلة. كل شيء للتخريب. تخريب شعري. مفارقة مدوية. راح المسرح ينتشر ويجمع. لأن المسرحيين لم يوقعوا عقوداً ولم يفرطوا، كما فعلوا قبلاً، بوضع الرياح بأقفاصهم. هبوب يودع جحيم الملح. ما عاد المسرح طائرة ورقية سائبة في فضاء العالم.
ارتدى المسرح وجه الدهشة والإدهاش. ثمة انعكاس وفير للشمس، بتجربة مسرح الحكواتي. أعود إلى الحكواتي كمثال متقدم. خرج روجيه عساف من مستنقع الطغيان في تجربة محترف بيروت للمسرح. اشتغل في المخيمات الفلسطينية مع محجوب عمر المصري. اشتغل في مقاصد صيدا مع أحمد الزعزع. اشتغل بعيناتا مع عبد اللطيف قطيش وناس القرية الجنوبية. قرية كسراج علَّق على ليل كلام تجاربه السابقة. هنا الأجمات البكر وروح الماء والنصف الخفي غير المعروف، من عالم لم يفكر أحد بالغوص فيه. جريانٌ.
إستغنى روجيه عساف عن بحر البحر. لم يعد مدمناً أشكال المسرح، عديمة الجدوى. إذ بحث عن الجدوى بالجدران أو بالأرقام الجديدة، سواء بسواء. «الحكواتي « وعدة حياته، الطاهرة، الجديدة. المسرح القديم، إضطرار صريح، عنده.
«فرقة الحكواتي « هر وحشي، ما لبث أن مزق بمخالبه وأنيابه وبغريزة سليمة، كل الأناشيد المسرحية القديمة المدكوكة بعار الإشتغال على روائح طفولة المسرح بالعالم، لا بالعالم الخاص. لا لعب على المنصة. اللعب بالصالة. الصالة صالة لا معبد. العرض خيمة مجنونة من الحكايات. لا تغريب بعد. ولا قوانين القدرات الغابرة. دم الصيد الساخن، عند باب المسرح. استقبل أعضاء الفريق المشاهدين، كضيوف. لا حكواتي تقليدي. لا حكواتي بريشتي. الحكواتي فارس السهرات بالبيوت الشعبية. شخص يمتلك القدرة على السيطرة على الغرف المأهولة بالساهرين. من يستطيع إنعاش السهرات بالحكايات والذكريات والأداء الطيب والغناء واللمعات المدهشة. جسد عار على ساقين قويتين. جسد عار بقلب يتعقب كل عضو ميت عند الآخرين، لكي يحييه بالخفقان الخاص به.
حكواتي لعوب، كنجمة تاجية، تقف بالسماء، لكي تنير الثرى. بدت التجارب كالأسماك في أكواريوم، ضخم، عملاق. لا اطمئنان أمام المنامات ببلاد الخوف المقنع والوحدة المزنرة بالصور السود.
الحلم غير المنام. حلم الجميع بالحرب. دخلوا بثنايا نوابض الساعات. كثرت التجارب ببلاد ضد صورها القديمة. بلاد البلور. سلالة من الفرق والتجارب.
فرقة الحكواتي اللبنانية )بالعبر والإبر، من حكايات جبل عامل ١٩٣٦ ، أيام الخيام. فازت الأخيرة بجائزة العرض المتكامل بمهرجان قرطاج المسرحي بالعام ١٩٨٣ . لعبت بالكثير من المدن الأوروبية والعربية(. محترف المنارة. أسس المحترف رئيف كرم وعادل فاخوري. فرقة السندباد مع رئيف كرم )دشر قمرنا يا حوت…(. قصدت تجارب يعقوب الشدراوي مراكز الضياء مع مسرحيات الحرب. جبران والقاعدة، نعيمة، الطرطور، بلا لعب يا ولاد.
فتح سفير المسرح السوفياتي، ليالي المدينة الصامتة والمغلقة، أيام الإجتياح الإسرائيلي، بالعام ١٩٨٢ ، على ارتعاشات الإضطراب، في مسرحية مفعمة بالفجر )الطرطور(. هجائية، صبّت النار بشعر المدينة المحاصرة، بالكوميديا ديلا آرتي. شارون يلعب بسكر الماء، حتى يقطع الماء عن بشر بيروت. بشر بيروت يقدمون الطرطور. فرجة مسرحية، ضد العتمة والصمت. ضد الموت والجوع والعطش. مزج زياد الرحباني مسرحياته بعمره. جاء الخوف والحزن بالمسرحيات، ممزوجاً بأصوات صنوج اللذة وفيض من أجنحة الضحك، الطالع من تحت الجلد. بالنسبة لبكرا شو، فيلم أميركي طويل، شي فاشل. مسرحيات ضد ألواث الأحقاد وضد زرع السم بالذهب. خرج الكثيرون من ألم العتمة. سهام ناصر )الجيب السري(، مشهور مصطفى، نضال الأشقر وفؤاد نعيم (الحلبة(. وضع الجميع الرأس بالقلب والقلب بالرأس. خرجت الأسماء دائماً من متاهات الأسواق. ريمون جبارة وربيع مروة وبيرج فازليان وانطوان ولطيفة ملتقى وجوزيف بو نصار وجان داوود وأنطوان كرباج ونورا السقاف وليلى دبس وزياد أبو عبسي ولينا أبيض. الأسماء الأربعة الأخيرة، اسماء تلاوة شعائر المسرح الجامعي. فصح المسرح لا كنيسته. عضدته الحرب على قطف القيمة بالجامعة، بعيداً من الخطب. ربت الحرب المسرح الجديد وعشرات المسرحيين. مسرحيون جدد، ومسرحيون توردت خدودهم من جديد، بعد أن بدت كالثمر الأشبه بعتمة الشكوك.
مطر المسرح بالحرب، مطر على حقل، لا مطر على زهرة. خصبت الحرب المسرح. خصبت كل أشكال التعبير. سمع طنين المسرح الساحر بالحرب. جذور جديدة من دون ستائر حرير. عبث ريمون جبارة. عندي: واقعيته السحرية. تفطر مسرحيات يعقوب الشدراوي على تنفس مزج المبهم بالمجهول، بجسد تفتح باستمرار، على الوضوح. العيون بالسيوف لا بالأرض. انفجر العالم بزخات من الدهشات. لم يعد المسرح رجلاً وحيداً. المسرح صوت الجماعة، بحرب بالكثير من الوجوه. حرب ثملة بشذى الزحام الصاخب بشوارع المدينة وصلاتها، حد إفساح المجال أمام بروز الهواة ومسرح الهواة )أبو موسى الزبال، مع بيار أبي صعب وفادي أبي خليل وآخرين(. الحرب ليست أوراق موت. ليست مستودع أسلحة وآليات حربية. ليست مستودع جثث. الحرب حياة بأكثر من حياة. الحرب حياة تضاعف الحياة، إذ تطلعها من صناديق الأسرار المختومة، إلى شارع أخضر طويل. الحبر قبر الفنون القديمة المقدسة. لا شبه بين الحرب السورية والحرب اللبنانية. الأولى عمودية. الأخرى أفقية. الحرب الأهلية بلبنان تم تخيلها بعناية، بحيث دفع باللبنانيين إلى تخطي لعبة الإرباك، بقيام مناطق واحدة مفتوحة على كل ما هو مثالي. «المنطقة الغربية «. ومناطق لم تعش فتراتها السعيدة، على مستوى الثقافة. «المنطقة الشرقية .» جمعت المسرح بلبنان وسوريا العلاقات المتشابكة بالحرب. وأن الحربين مثلتا مشهدين كونيين. غير أن الحرب اللبنانية، حرب تجريدية بالتصورات المختصرة، في حين أن الحرب السورية، حرب واقعية. الحرب الأولى حرب استعارة. الأخرى حرب خطابات، كلما جرى استعمالها، ازداد عنفها.
أخذ المسرح في لبنان دوره الوسيط بين الثقافة والجمهور. مسرح، لا يجعله الحضور هشاً. حضور المسرح السوري بالداخل والخارج، حضور هش. ازدادت الهشاشة، مع تغذية الأوهام لدى طرف وتغذية الخوف لدى الطرف الآخر. تزايد الأوهام بمسرحيات المعارضة السورية، بلبنان على وجه الخصوص. وتزيد الخوف في مسرحيات الداخل المحاصر بأجهزة تصوير المعارك وما يتهدد أصحابها من المعارك هذه، ما زاد من ارباك أصحابها. واحدة من الأمثلة الساطعة، مسرحية النافذة لعمر جباعي. قدمت بمهرجان المسرح العربي بوهران الجزائرية. الكائنات المسرحية، تصبح كائنات واقع. لا العكس. رجل وإمرأة بيت، بعالم من خيال، يراقبان نافذة، يرتعش خلفها ضوء أو ما ظنا أنه ضوء. الحرب هنا، حرب معكوسة على شبكة العلاقات بين الزوجين. زوج مدمن على شرب المسكرات والسجائر. لا كلام يجمعه بالزوجة. لأنه بات معظم أيامه يلاحظ الضوء خلف الشباك. نهاية المسرحية، بانضمام الزوجة إلى الزوج وهي تراقب الضوء كما يراقب الزوج الضوء. «ما عم اتذكر « مانيفست سياسية. معتقل سابق يروي حكاياته أمام جمهور لا يعثر على حضوره الجديد إلا من خلال قصة المعتقل الجديدة. مسرحيات بين الأمثلة أو النمذجة وبين كتابة دوافع الحرب وانعكاساتها على جدران العلاقات بين البشر. ثم، أن المسرحية السورية، لا تصور طرق الفنان بكتابة عمله، قدر ما تخلد الواقع الأولي أو الواقع الجديد. هكذا هي «فوق الصفر «لأسامة حلال أو» إذا فيك تتطلع بالكاميرا، لعمر أبي سعدى أو «من أجل نعم أو من أجل لا « لمجد فضة. أو «المهاجران» لسامر فضة.
كنست الحرب بلبنان قياسات الفنان القديمة. لم يعد بوسط لعبة مكعبات. أضحى في أطلس جديد، حرك بأشكال التمثيلات الخرائطية بإدراج المعطيات الخاصة على أقراص الدوائر الراهنة. أيام الخيام ومن حكايات ٣٦ لمسرح الحكواتي انموذج ضد التصورات الكمية بالحروب، ضد التصورات الكمية للحروب. التجارب الأخرى، في معظمها، رفعت إدارة الفنان على أجنحة الحرية القصوى. فتحت الحرب الحقل الخيالي للإمكانيات بلبنان. لا حقول خيال بسوريا أمام مشاهد العنف والقتل والاغتصاب والدمار الشامل. دمار لحم الأحياء والمناطق ببعضها، على عكس البشر. حول اللبناني العالم إلى خيط بالحرب الأهلية. لم يستطع المسرحيون السوريون، استنباط معطيات جديدة من حرب، ما تزال تدور بين التمزق والتمزق. غياب الروح الكوسموبوليتية عن مدن الحرب وقرى الحرب بسوريا، أفقد المسرح شواغل الفنان، بصالح إعلاء الخطاب من دون تلوين.
تطوع الناس بالخطر، صارعوا الموت. مبدعون، محاربون، لا يريدون لحياتهم الجماعية أو الجمعية، أن تهدر. أو أن يهبطوا إلى بطن الأرض لمرة أخيرة. الحرب مائدة. نهب السياسيون بلادها العظيمة. خسارة. بسوريا، ما تزال الحرب لعبة قاسية، لا تقاس إلا بمقياس الأرباح والخسائر. خرج الوضع اللبناني بالمسرح على ذلك، إذ شدد على الطبائع
الطموحة والساخرة للمشاريع الفنية.
*من ملحق بناء السلام في لبنان.