يقظة باردة كالماء

سركون بولص
ناجح المعموري
(1-2)

هذه قصة أخرى لسركون بولص فيها مواقف حياتية وذاتية ، الأشخاص فيها مثل غيرهم عرفوا الهزائم والخسارات ، ويبدو بأنها متكررة باستمرار وهذا ما عرفه كل من أدمون / وصديقه / وصاحب المقهى الذي كان أكثر تصريحاً بخسارته وهزيمته ، لأنه أنتحب باكياً وسط المقهى ورآه روادها ولا يمكن حصول بكاء / ونشيج حزين بلا سبب ، وظل القهواتي كتوماً على حالته وأسبابه ولم يقل إلا ما يشير إلى عدم وجود شيء جوهري سبب له البكاء [ …. ذهب نحو صاحب المقهى ونظر إليه بوجه محايد ، لم أكن أرى وجه الرجل ، بل مؤخرة رأسه . وسأله أدمون :
– عمي ، هل أنت بحاجة ….
وتردد : إذا كانت عندك أي مشكلة
ضحك الرجل ضحكة يائسة مليئة بالكبرياء الشعبية ، وقال مازحاً وهو يشرق بدموعه الشريفة:
– لا . لا وداعتك
وأخذ يكرر كلمته بكآبة :
– لا وداعتك . ل وداعتك /ص120
صاحب المقهى مندحر والإحساس بالخسران كبير ،وليس في المعقول أن ينتحب رجل وسط حشد من الرجال ، لكنه لم يصرح بالسبب أو يبح بالخفي . وتحول صاحب المقهى نظيراً متماثلاً لأدمون الذي بكى في ليلة سابقة ، وقبيل الصباح ، هو لم يقل بالسبب ، ولكن المعتقد بأن الإحساس بالمطاردة الوجودية / الملاحقة والإحباط ، ربما تكرر الفشل في حياة ، سعى أن تكون جديدة ، إلا إنها ظهرت أكثر سوءاً مما كان عليه في مدينته السابقة .
– لا أدري لم هربت على كل حال .
– من البيت ؟
إلى هذه المدينة القذرة .
ورددّ بضعف : – هذه المدينة القذرة جداً / ص118 .
لم يشعر بالأمان والاطمئنان في مدينة جاء إليها ، تاركاً بيته ومدينته ، وما حصل له تعبير عن المحنة الإنسانية المعاشة . وحاول التمرد على مكانه بالتحول إلى مكان آخر ولكنه وجد المدينة قذرة ، لا بل قذرة جداً .
***
استهلال القصة كاشف عن حالة القلق التي كان يعيشها ( أدمون) الذي « تحرك تحت غطاءه ، وفجأة ينهض من فوقه ويرتدي ملابسه ويخرج ، أسمع صوت خروجه ، وباب يغلق « ص117 وظل صديقه يتصنت لخطواته أسفل النافذة ، ومن الخارج تتدفق أصوات ضعيفة لا تلبث أن تتميز : مطر / ص17 ، النافذة في استهلال هذه القصة وسيط للاستماع لخطوات صديقه الذي كان هارباً من السكن في وقت متأخر من الليل ، ولم تكن النافذة في الاستهلال للمراقبة والاطلاع نحو الخارج ، لكن القاص لا يستغني عن النافذة كوسيلة مباشرة لمراقبة الفضاء الخارجي . وتتحول النافذة / الواجهة الزجاجية بديلاً عن النافذة التي تكررت في قصصه في لحظات القلق والتأزم النفسي والإحساس بالوحدة ، على الرغم من وجود مشارك في المكان كما في قصة ( العلاقة ) واضطرار الفتاة لمراقبة الخارج من النافذة بسبب تأخر والديها عندما كان يوسف معها في الغرفة العلوية حاملاً لها رسالة خاصة من صديقه فؤاد ، خطيب الفتاة . وعبرت الواجهة الزجاجية للمقهى عن حالة أكثر وضوحاً ، عانى منها صاحب المقهى وهذا ما كشفت عنه تفاصيل سـردية.
غادر أدمون إلى الخارج والمطر يتساقط ، لأنه لم يستطع النوم ، لكنه عاد مرة ثانية إلى الغرفة ودار حوار سريع بين أدمون وصديقه الذي عرف بقلقه وقال له :- لقد تأخرت :
– ليس هناك ما تتأخر عنه . هل ستسافر ؟
– لا – شهق – تأخرت طيلة حياتي / 118
كشف آخر أكثر تعبيراً عن الأزمة التي يعيشها أدمون ، قلق وجودي وقناعة بالفشل، لأنه اعترف صراحة بأنه تأخر طيلة حياته.
وتدخل القاص سركون بولص لرسم صورة واضحة عن التماهي بين أدمون والطبيعة طرف مهم في التماهي مع الحالة الذاتية وليس – المطر – ظاهرة طبيعية وإنما هو فعل تناظري .
– الساعة الثالثة . لم يأتك النوم إلا الآن .
وتبدّت ثنائية الأزمة التي وقع تحت ضغطها ، والثنائية هي : الفشل الذي واجهه أدمون في حياته كلها ، وبالإضافة إلى تمرده عن البيت وهروبه إلى مدينة أخرى وهي مدينة قذرة . ويبدو بأن الصديق راغب في مغادرة الغرفة فجراً ، وفي تمام الثالثة صباحاً لذا « وعلى حين غرة نهضت ، وانسللت من السرير ، عرفت أنه يشتمني بصمت … ولكن أدمون شتمه مرة ثانية وبصمت حتى نام . وأول شيء فعله أدمون بعد غسل وجهه هو النظر من النافذة وانزعج لما رأى.
ولم يكتف بذلك بل فتح النافذة ونظر للخارج وكأنه يريد استعادة التوازن النفسي المفقود عبر استنشاقه الهواء. لكن الاثنين واجها خطافاً وسط المقهى ،هذا الطائر الذي نسجت عنه الجماعات عدداً من الأساطير ذات المعنى المقدس . والخطاف طائر هارب من مكان خارجي إلى مكان آخر أكثر دفئاً وهو دال رمزي على أدمون الهارب من بيته ومدينته ، لكن جاء إلى مدينة قذرة كما قال . والتناظر بالمعنى واحدة من خصائص سركون بولص في قصصه . والخطاف زاحف وسريع جداً . لكن الراوي لم يره ثانية في المقهى واعتقد بأنه غادر نحو مقهى آخر ، ودخول الخطاف للمقهى صدفة وهو كثيراً ما يبتعد عن الأماكن العامة ، ولكن قصدية سركون من أجل التناظر الذي ذكرته سابقاً أوجده وسط المقهى ، هذا جانب فني والأمر الثاني كان للخطاف دور لاحق في هذه القصة ولم يشر له القاص إلا بعد دخولهما للمقهى { كان طائر في هذا النوع قد بنا لعائلته عشاً ذات مرة في مرحاض عام. لم يميز الحيوان المسكين المقدس مكانه. أو أنه لم يكن هناك اختلاف بالنسبة له.
وكان يغني وهو يطير بنشاط فوق فوهة المرحاض كما أتذكر. ولكن لا. إلى نهر ، إلى نهر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة