نهى جعفر
هل تقهقر الشعر لصالح القصة والرواية..؟
هل سقطت إمارته لتنهض على رفاتها مملكة الأوعية السردية التي اتسعت لتقلبات العصر؟
هل أصبح المتلقي متكاسلا عن استقبال الانفعال الجمالي داخل قواعد وأطر تحكم الكلمة بوزن أو قافية أو إيقاع داخلي؟
الفوضى التي يعيشها العصر … هل أخضعت الأدب للمستويات الثقافية للفرد والمؤسسة؟
أيكون اتجاه الشعر للغموض ردة فعل ضد المتلقي ليثبت انه أدب للنخبة..؟
لا يمكن أن نتحدث بتفسير مقنع للعنوان دون أن نغوص في أعماق تلك التساؤلات أعلاه.. فقد تجاوز النثر تلك الخطى الخجلة التي كان يسير بها إلى جانب الشعر في مدة زمنية أقرت للشعر بالسلطان على جميع الأجناس الأدبية الأخرى وإن كان الإنسان منذ القدم قد عاش ارتباطا مع الحكاية التي عبرت عن الخيال مرة وعن الواقع مرة أخرى فلم تكن لتحتل تلك المكانة التي تفرد بها الشعر فبقي النثر فنا مغمورا إلى جانبه إلى ان تزين بحلة القصة القصيرة والرواية ليصدر صوتا مدويا من الحضور على الساحة الأدبية مسجلا أعلى الأرقام بين إحصائيات المطبوع والمقروء, انحرفت الرواية بموضوعها عن التسلية بوصفه غرضا أساسيا لها منذ ولادتها ..لتصبح فنا إنسانيا هادفا يعبر عن مشكلات عصره ..وعاء نثريا مستوعبا لتقلبات المجتمع وبالأخص تلك التقلبات التي خضع لها الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية, أعيد بناء المجتمع وأعيد معه الذوق الأدبي ,منذ إطلالتها الأولى على الساحة جاءت لتتناول الواقع الاجتماعي ومشكلاته كونها تعتمد على مساحة تعبيرية ممتدة لا تتقيد بتعقيد لفظي أو موسيقي , خضع الشعر لذائقة المتلقي فخلع ثوبه القديم واتجه للتجديد في الشكل والمضمون لكنه لم يزعزع قبضة الرواية المحكمة على ذوق المتلقي, ثم انحرف بعد ذلك إلى الغموض الأمر الذي جعل منه فنا للنخبة فنا لا يتلقاه الا من يمتلك الأدوات لفك جميع شفراته أولا ثم تذوقه ..فبين غموض يتجه تحو الرمزية وآخر يتجه نحو فرادة التجربة ابتعد الشعر عن الجمهور أصبح المتلقي ميالا إلى الرواية فهو يجد نفسه فيها يجد تجربته وكأنه هو من يبحر في أحداثها سيما وهو تزداد يوما بعد يوم قربا من المجتمع لتكون مجتمعا مصغرا بين دفتي كتاب.
أما دور النشر وهي حلقة الوصل بين المنتج والمتلقي فقد أصبحت تبحث عن المردود المادي وهي بهذا تكون خاضعة أيضا لسلطة المتلقي لتلبي رغبته في ما يود هو أن يقرأ, راكبة الموجة التي تعم العصر حسب التغيير في البنية المجتمعية ….حتى المؤسسات الرسمية التي يفترض ان تكون حاكمة على الثقافة انحرفت عن مسار الشعر …وفي الحقيقة لا يمكن لي أن أخفي قلقا يساورني منذ زمن عن خضوع المنظومة الثقافية العربية لهجمة ما تهدف للإطاحة بالشعر خططت أولا لانحرافه عن الوضوح ثم تخليه عن تلك الروح التي تتوهج بالحماس والمشاعر الإنسانية الجياشة لتأسر الروح والسمع, هذا أولا ثانيا وهو الأهم ذوق المتلقي الذي شهدت الساحة الأدبية الكثير من المحاولات لانتشاله وإعادته لمغازلة الشعر من خلال القصيدة الالكترونية مثلا دون جدوى , ويبدو إن الفوضى التي تعم الساحة والنشر المتعثر الذي لم يعد مهتما بمادة المنشور فضلا عن المجاملات النقدية التي كسرت أقلامها لتتحول إلى فرش لتلميع الكاتب والمكتوب لا يقل دورها عن دور النشر في تأخر الشعر وضحالة مادته كل هذا ترك المتلقي مرتبكا أمام الشعر, أمام هذا الكم الذي لا يعرف له اسما يتوافق والموروث المتراكم في ذهن المتلقي
وإذا ما أردنا للشعر أن يتعافى ويعود الى سابق عهده من الألق والحضور فلابد من الانتباه إلى امور عدة أولها فرض الرقابة على المنشور فليس من الممكن لأي فرد أن ينشر مادة تحت مسمى فني ما دون ان تمثله لمجرد كونه يمتلك ثمن ما ينشر وربما يستهين بعضهم بصدور كتاب هنا او هناك من هذا النوع دون أن يدرك عواقبه الوخيمة على الساحة الادبية التي تكون بالنهاية ذائقة الفرد , هذا يحيلنا على سبب آخر للميل نحو الرواية ربما لكونها فنا واضحا وفيا لنوعه وجنسه غير متقلب , كما أن الصالونات الأدبية والهيئات الثقافية والقنوات المسموعة والمرئية يجب أن تمد يدها لهذا الأمير الذي أصبح هائما بلا إمارة ..وكأنه يحاكي أميره الأول منذ العصر الجاهلي يتمثله وهو هائم على وجهه ليسترد ملكه ….