مع تقلص وانكماش سيطرة داعش على الأراضي العراقية وقرب هزيمتهم العسكرية في المحافظة (الموصل) التي أعلنوا من جامعها الكبير عودة الفردوس المفقود (الخلافة)؛ تصاعدت بورصة الاهتمامات حول مرحلة ما بعد داعش، وهي تختزن في جوفها وصيغتها شتى الاحتمالات، فكما خفت صيت ودور (الزرقاوي وقاعدته) لصالح داعش، يمكن أن يتلقف أمانة الإرهاب والإجرام والنزاعات الوحشية، مسخ آخر يعيد تنظيم القوى والمصالح وفتات السرديات القاتلة، لتستمر الدورة القاتلة للحروب والموت والدمار. هذا الأمر يدعونا الى إعادة النظر بالعنوان (ما بعد داعش) الى آخر لا يدفعنا الى فصل آخر من المتاهات، ألا وهو (ما بعد العسكرة)، لا سيما وأن ظهور داعش قد أسهم بشكل لا مثيل له بعسكرة الحياة في مجتمع تورط بها منذ زمن بعيد. إن مشكلتنا الأساس تكمن في التضخم الهائل للعسكرة التي بسطت هيمنتها على تفصيلات الحياة في هذا الوطن المنكوب على حساب الحقول والاهتمامات الاقتصادية والعلمية وقضايا التنمية، التي هجرت بشكل لا مثيل له في العقود الأخيرة. مجتمع لا يجيد غالبية سكانه غير مهنة الاقتتال والاحتفاء بالرصاص والبارود وآخر ما تنتجه مصانع الأسلحة من أدوات للقتل والتدمير، لا يستغرب منه كل هذه الابتكارات في مجال الكراهة والعدوان وإعادة استنساخ التظيمات الإرهابية وأشكال لا عد لها من الجماعات المسلحة والميليشيات وما يرافقها من قيم متخلفة وسلوكيات ومعايير لا تجلب سوى الخراب.
لا يمكن ان نختلف على نوع التحديات التي تواجهنا جميعاً كعراقيين، وطبيعة الكارثة التي نقف عند حافاتها، حيث الوضع الاقتصادي المنحدر بسرعة صوب الانهيار، لأسباب لا نحتاج للتعريف بها، بعد سلسلة السياسات الخائبة ولعنة الحروب وأطوارها المتجددة التي أشرنا اليها، فأرقام الديون بدأت بالتضخم منذ حزيران العام 2014 الى يومنا هذا، وسنحتاج الى المزيد منها كي تسترد حطام المدن والمناطق المنكوبة من احتلال داعش لها، أوضاعها السابقة. كما أن أسعار رزقنا الريعي (النفط والغاز) لن تتجاوز الأرقام المتواضعة التي عرفتها في العامين الأخيرين كما تشير التقارير المعنية في هذا المجال، ومع الأعداد الهائلة لموظفي الدولة المدنيين والعسكريين وتعاظم شبكات الفساد المهيمنة على المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع، فأن عملية النهوض مجدداً لن تكون يسيرة، وستحتاج الى قرارات وخيارات مؤلمة وصعبة، تعيد تنظيم الحياة على أساس المعايير والأوليات المجربة، لا سيما في مجال العلاقة مع لعنة العسكرة والحروب التي سحقت أجمل تطلعات العراقيين في العيش كبقية الأمم الحرة.
ان التحول الحقيقي الذي يعيد للعراقيين دورهم ومكانتهم اللائقة بهم بين الأمم الأخرى، لن يحصل مع مثل هذه التوجهات الممعنة بالمزيد من مظاهر العسكرة وكرنفالات الاحتفاء بها وبسباق التسلح المتسارع لا بين الأحزاب والكتل المهيمنة وحسب بل الى ما يعرف اليوم بجيوش العشائر والقبائل والتي لم يعد يعوزها غير أسراب المقاتلات الحديثة، كما كشفت عن ذلك صولاتها الأخيرة. ما نحتاج اليه بعد هذا المشوار الطويل من الجنوح نحو العسكرة؛ هو إعادة توجيه ما تبقى لنا من إمكانات بشرية ومعنوية صوب حقول النشاط السلمي وورش الإنتاج المادي والمعرفي، القادرة وحدها على كبح كل هذا الجنون وإعادة سكان هذا الوطن القديم الى هويتهم الحضارية والعقلانية المترعة بالخلق والإبداع والابتكار..
جمال جصاني
ما بعد.. العسكرة
التعليقات مغلقة