مهند الخيكاني
أول الأمر بدأ الشعر يصف كل شعور جديد يغمر الانسان، منطلقا من السطح، هامسا وصادحا بكل ما يثير ويحرك مناخه الراكد والمألوف، وبعد ان جاءت الحقبة التي تراكمت فيها كميات لا تحصى في هذه المنطقة، صارت تعاني من التكرار والملل والضجر ، لأنها لم تعد صادمة كما من قبل ، فالشاعر والمتلقي وصلا مرحلة التخمة ، وانكشفت الحدود الغامضة وطرائق الاشتغال . فقرر ان يخوض في الأعماق ، ومن عمق الى آخر ، أشبه بالقصر الكبير ، يختبر فيه الشعراء على مر العصور غرف هذا القصر ، حتى تكشفت الظلمة كلها في هذه الغرف ، والممرات ، والسلالم والجدران ، وعندما وصلت العربة الينا ، وصلت مليئة وثرية ، ورغم ذلك ، الشعراء لم يكفوا عن اكتشاف اعماق جديدة في المناطق المجاورة لهذا القصر ، لكن ورغم ذلك أيضا ، فالأعماق بدأت تنفضح ، والوضوح يطغى عليها ، أذن ماذا يفعل الشاعر عندما تنقلب المعادلة ، وتصبح مواده الدسمة باباً مفتوحة يدخلها الجميع ، حيث لا يفرق بينه وبين المتلقي المنجذب الى قمة الفكرة سوى روعة صياغاته وتفننه في كيفيات القول.
هنا تماما حيث بدأت مرحلة جديدة ، هذه المرحلة لا تُعنى ب اكتشاف اعماق جديدة رغم انها لا تزال تنقب ، تنجح مرة وتخفق مرات، لكنها في ظل هذا التراكم الهائل الذي تحمله العربة عربة الشعر، من الماضي وحتى وقتنا هذا ، تستخرجُ من الخطوط العريضة خطوطا أخرى أكثر دقة ونحولة ، ثم بدأت تفك الخيوط المشتبكة، وتركز على الابحار تحت التفاصيل ثم تحت تفاصيل هذه التفاصيل ، لذا ف ان الشعر اليوم ومؤهلات الشاعر اليوم في تحد كبير أمام الشعر والشاعر في المراحل الماضية ، فهو بحاجة مستويات أعلى من الدقة والملاحظة والتفكير ، حتى يلتقط بمهارة الصياد الخيوط الرفيعة الموجودة لكنها لم تلاحظ بعد ، والقدرة على الاستفادة من الاشتباكات الحاصلة بين عمق وآخر ، بين فكرة وأخرى ، بين اختلاف وتشابه . وهذا الخوض لا يزال ينجو فيه ثلة ، ويغرق فيه كثيرون ، لذا مرة يسقطهم التكرار ومرة يسحب التراث ذيل ثيابه من تحت ارجلهم ، ومرة يتناسخون ويتماسخون، ومرة هي نفس الأنثى ، يبات في فراشها مجموعة شعراء، فينجبون توائم .
وحتى يهرب الشاعرُ من ضيق المعنى وفقر الأفق وصرامة القصد والاشارة والمؤدى ، تحول الى مخادع كبير ، يقول الكثير والكثير عبر اللغة الفائضة المزهوة بأرق واعذب ما تشير اليه ، لكنها في الحقيقة لا تقول ، أنها تتوارى وتدعي انها تقول.
واصبحنا في مرحلة جديدة أخرى بين النصوص التي « تقول « لأنها مدركة مسبقا لما تريد قوله ، ونصوص مثل حلوى « شعر البنات « ، مشعة لكنها تذوب بكلها خلال لحظة واحدة ، وما طعم السكر الخادع الزائل هذا ، سوى اللغة الوحيدة المسكينة الخالية من حمولة المعنى الفذ. وهذه النصوص تسبح في المجاز غالبا وببراعة ، لكنها لا تقول . بل انها تعمد في الغالب الى اعادة انتاج ما هو مطروح ومتوافر.