عوائق آيديولوجية

أندرياس فيلاسكو
المرشح الرئاسي السابق ووزير المالية في شيلي.
كاد مشروع قانون الرعاية الصحية لدونالد ترامب الذي يُطلق عليه اسم «ريانكير» نسبة إلى رئيس مجلس النواب بول رايان – أن يحرم 24 مليون أميركي من التأمين الصحي، وفقاً لمكتب ميزانية الكونغرس الاميركي. لكن هذا لم يكن السبب في رفضه من قبل الجمهوريين الأكثر تحفظاً. على الرغم من أنه كان سيحقق لترامب ولحزبهم انتصاراً سياسياً، رفض المحافظون التصويت لصالح المشروع لأنه لم يبذل أي مجهود لإلغاء قانون الرعاية المتاح («أوباماكير») والذين يكرهونه.
كان من الممكن أن يحتفظ ريانكير بقانون أوباماكير الذي يمنع شركات التأمين من استبعاد الأشخاص الذين يعانون من ظروف مرضية مسبقاً. وكان من شأنه أن يوفر إعفاءات ضريبية لمساعدة الأشخاص ذوي الدخل المنخفض لشراء التأمين الصحي. لكن بالنسبة للمحافظين في المجمع الانتخابي، هذه الميزات، على الرغم من شعبيتها، عبارة عن دعم للاشتراكية. وبذلك حقق معارضو المشروع انتصار الأيديولوجية على النفعية السياسية.
إن عودة الأيديولوجية ليست مجرد ظاهرة يمينية، ولا تقتصر على الولايات المتحدة. مثلا نقل جيريمي كوربين حزب العمل في المملكة المتحدة بنحو حاد إلى اليسار وبعيداً عن النهج العملي لتوني بلير. ويشير وضعه الكئيب في استطلاعات الرأي إلى أن كوربين، مثل الجمهوريين المحافظين، يفضل أن يشعر بالصفاء أيديولوجياً على أن يكون فعالا سياسياً.
لكن ما هي الأيديولوجية بالتحديد؟ ولماذا عادت؟
الأيديولوجية السياسية، مثل الكوليسترول، تتكون من نوعين: جيد وسيئ. الأيديولوجية الجيدة أداة تنظيمية لإضفاء معنى على عالم معقد. وتعد نماذج الاقتصاديين نوعا من أنواع الأيديولوجية: فهي تبسط العالم، وتؤكد على بعض الروابط السببية وتقلل من الروابط الأخرى، وتسمح لنا بمعرفة الأدوار المنوطة بكل شخص. وكما يقول داني رودريك من جامعة هارفارد، « الفهم يتطلب البساطة».
هل الرأسمالية عادلة؟ بعض الناس سيجيبون بنعم، لأن المنافسة في الأسواق تفرض أن يتقاضى العمال أجرا حسب ما ينتجونه؛ لكن الناس الآخرين لا يتوافقون مع هذا الرأي، لأن أصحاب رأس المال يستغلون هؤلاء بلا خجل. ويمكن أن تكون هذه المقترحات (الأيديولوجية) صحيحة كما يمكن أن تكون خاطئة. لكن من خلال وضعها في الأمام، ومواجهتها بالواقع، نتعلم شيئاً عن العالم.
هناك كلمة أكثر رسمية – وأكثر حداثة – للأيديولوجية هي السرد. لقد فهم الكتاب والسياسيون الناجحون منذ زمن طويل أهمية السرد الجيد. وبدأ علماء الاجتماع الآن فقط في تقدير الدور الرئيسي الذي يلعبه السرد.
ويُعَرف روبرت شيلر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل السرد بأنه «قصة بسيطة أو تفسير واضح للأحداث». وقال شيلر «على الاقتصاد السردي الجديد» أن يدرس «انتشار وديناميات الروايات الشعبية … – وخاصة تلك التي تهم الإنسان أو العاطفة – وكيف تتغير هذه التغيرات عبر الزمن، لفهم التقلبات الاقتصادية «.
وإذا كانت تنبؤات السرد أو الأيديولوجية تتعارض مع الواقع، فيمكن للمرء أن يغير السرد أو يغير الحقائق. والخيار الثاني هو عندما نواجه روايات سيئة – وأيديولوجية رديئة – حيث تصبح السياسات بعيدة عن الحقيقة أو الواقع.
و يأتي هذا الخيار نتيجة الأيديولوجيات التي ليست مجرد أجهزة تعليمية؛ كما أنها تخدم أغراضاً اجتماعية ونفسية. في كتابهم الكلاسيكي لعام 1950 تحت عنوان «الشخصية الاستبدادية»، أشار المنظر الاجتماعي الألماني ثيودور أدورنو وشركاؤه في التأليف إلى أن «الأيديولوجيات لديها درجات مختلفة من الدوافع» اعتمادا على «احتياجات الفرد ودرجة تلبية هذه الاحتياجات أو صدها». في الآونة الأخيرة، قال عالم النفس الاجتماعي في جامعة نيويورك جون جوست إن» الأيديولوجيات ونظم المعتقد الأخرى تنمو نتيجة محاولات لتلبية الاحتياجات المعرفية والوجودية والعلائقية للبشرية «.
لفهم العودة الأخيرة للأيديولوجية، لابد من التركيز على كلمة علائقية في هذا الاستشهاد. أي شخص يعتقد أن الرأسمالية غير عادلة يتقاسم الشعور نفسه مع الآخرين الذين لديهم الاعتقاد نفسه. إذا استمرت هذه المصادفة لبعض الوقت، وإذا اجتمع أصحاب هذا الاعتقاد، وقاموا بنقاشات، وتنظيمات، وحشد لصالح هذا الاعتقاد، فإن هوية المجموعة ستتطور. في النهاية، قد تكون الأيديولوجية أكثر أهمية، حيث أن الرابط الذي يجمع المجموعة هو مصدر تنوير حول طبيعة الرأسمالية.
كوزير المالية التشيلي قبل بضع سنوات، تعلمتُ هذا الدرس بصعوبة. في احتفال نهاية العام مع برلمانيين من ائتلافي الخاص، رفعنا نَخبا لنجاحنا في الحصول على العديد من المشاريع العالية الجودة بدعم من المعارضة. لكن فشل الاحتفال وباتت الغرفة صامتة. ثم تحدث عضو كبير في مجلس الشيوخ: «من يهتم بالدعم الواسع يا معالي الوزير. ولكي نحافظ على اتحادنا، نحتاج إلى مشاريع تسمح لنا بخوض معركة مع المعارضة «. كان هذا المنتخب يسارياً من التشيلي ، ولكن حسب المنطق (أو غير المنطق) كان موافقاً لمفهوم اليمين المحافظ الذي أغرق ريانكير.
لذا فإن سياسة الإيديولوجية المتطرفة هي في النهاية نوع من سياسات الهوية. الضحية الأولى هي الحقيقة: تذهب الجائزة إلى الحجج التي تربط هوية المجموعة، وليس للحجج التي تلتزم بالحقائق. والضحية الثانية هي نوعية السياسة العامة: فالسياسات القائمة على الأدلة التي تتغير وفقا للظروف على أرض الواقع، أو على وفق نهج عملي يحتفظ بالسياسات الناجعة ويتجاهل الفاشلة منها، لا تستطيع أن تحافظ على هوية المجموعة الواضحة إذا كانت السياسات التي تنادي بها المجموعة تتغير في كل وقت.
لكن اعتماد السياسة الأيديولوجية فقط على الهوية يضع لها حدودا تُقلص من تطورها. وكما قال مارك ليلا من جامعة كولومبيا، في المجتمعات الديمقراطية المعقدة والمتنوعة، النداءات السياسية التي تستند فقط إلى الهويات الضيقة – سواء كانت مرتبطة بأيديولوجية أو الدين أو الانتماء – محكوم عليها بالفشل في النهاية. فإذا ناشدت مؤيديك فقط، فهم وحدهم من سيعطونك أصواتهم. أنظر انموذج كوربين.
لكن في حالات أخرى، تصبح تلك الحدود واضحة المعالم فقط مع مرور الوقت. من الآن فصاعدًا، يمكن لسياسات الأيديولوجية المتطرفة، مثل الكوليسترول السيئ الذي تشبهه، أن تسبب قدراً كبيرًا من الضرر. ومن بين الأمثلة نشير إلى مناقشة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. وهناك أمثلة أخرى مقبلة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة