شاكر لعيبي
يمكن للشعراء وللناشرين والنقاد ان يلاحظوا ان قراءة الشعر في انحسار مطرد، منذ خمسة عشر عاماً. وهو الأمر الذي يفسر لنا ازدهار دور النشر (الشخصية) إذا صح التعبير التي تطبع المجموعات الشعرية لأصحابها، ويفسر كذلك عدم تعاطي دور النشر مع الشعر الا بشروط (الدفع المسبق(
لا يُحسد الشعر العربي على هذه الحال. لسنا البتة مع القائلين بموت الشعر – مثلما يقولون بموت التاريخ مثلاً- مادام ان الحاجة الى التعبير عبر لغة إستعارية وعاطفية تظل شاخصة واساسية في ضمير الكائن الآدمي. لكننا نقول بأن الثقافة العربية، عبر متلقيها وقرائها، صارت تستسهل الكتابة الشعرية برمتها. والحاصل لدينا أن قراء الشعر أنفسهم تحولوا بسبب هذا الإستسهال المعمَّم الى منتجين للشعر هم أنفسهم. اننا نشهد منذ بعض الوقت الظاهرة التالية : ان الشعراء ومنتجي النصوص الشعرية هم قراء الشعر ومستهلكوه، في حين انصرفت الغالبية المطلقة الى ضروب أخرى من المعرفة المكتوبة كالرواية والتاريخ السياسي والتراث العربي كما الى كتب الطبيخ والسحر بالنسبة لطبقة واسعة من القراء العرب من المحيط الى الخليج.
وفي الحقيقة فان الشعراء الأكثر انتشاراً وقراءةً هم على الأكثر أربعة لا خامس لهم في تقديرنا: نزار قباني، محمود درويش، مظفر النواب وأحمد مطر. بعض هؤلاء الشعراء مقروء ليس دوماً لسبب من طبيعة جمالية عميقة أو بسبب الروح الإستعارية المذهلة لنصه الشعري، ولكن اصلاً بسبب حافز من طينة سياسية واجتماعية. ذلك اننا نلاحظ ان هؤلاء الشعراء المعروفين ينهلون، كل حسب اجتهاده ومخياله وقوة صورته الشعرية، من الهواجس الحياتية المباشرة في الحياة العربية : التغزل الحسي بالمرأة لدى قباني الذي يـمس في الغالب جانباً محرماً (مثله مثل بعض نصوص مظفر النواب الفصحى، والكثير من شعره بالعامية)، ثم ثمة الألم الفلسطيني المباشر عند درويش الذي ينقله هذا الشاعر الكبير الى مصاف وجودي ويمنحه ثقلاً أبعد من آنيته، من دون أن ينفي ذلك ان آنيته وراهنيته هي التي تجعله، في نهاية المطاف، مقروءً عند عامة القراء العرب. ثم الهاجس السياسي المكتوب بلغة بسيطة وتبسيطية، مثقلة بغنائية عالية تجيب على روح عربي، تعود على النغم والقافية الصداحة لدى مطر.
البعض من هؤلاء الشعراء الأربعة كبار من دون شك، لكن قاماتهم، من الزاوية الشعرية المحضة، لا تقل البتة، كما يتراءى لنا، عن شعراء آخرين من جيلهم أو من الاجيال السابقة او اللاحقة عليهم الذين لم تتوفر لهم سعة القراءة وانتشار هؤلاء الشعراء الأربعة.
هكذا نرى ان المأزق الشعري، من زاوية القراءة الان، يتعلق بشكل وآخر بل يجيب على حاجات انسانية ليست بالضرورة من طبيعة الشعر الداخلية، انما هي رهينة بالآمال والمخاوف والرغائب المباشرة، سريعة العطب التي تطلع، برغم شرعية وجودها المطلق، من أطر آنية وشروط ضيقة تتعارض مع افق الشعر.
من يقرأ الشعر العربي اليوم إذن ؟
منتجوه وقلة معدودة من المهتمين الرجال ومن القارئات (وهذه ظاهرة جديدة على ثقافتنا العربية). تقع المفارقة الكبيرة في ان انحسار قرائه لا يعني ابداً تراجعاً فنياً وجمالياً في بنية القصيدة الحديثة. لقد أحرزت هذه القصيدة تطوراً مذهلاً وهي تنوِّع اشكالها وموسيقاها وتجاربها اللغوية والصوتية وترتاد مناطق مجهولة كلياً.
سوى انه بالقدر الذي تطورت فيه هذه القصيدة فقد تراجع عدد قرائها وجرى استسهالها، لأنه جرى الاعتقاد ان ثمة (عمودًا) شعرياً ثابتاً للنص الجديد مثلما كان هناك عمود شكلي واحد للقصيدة الكلاسيكية، وان هناك (قوانين) خارجية، محددة ونهائية تحكم هذه القصيدة الجديدة وتسمح بالتالي بإنتاجها وإعادة إنتاجها من دون جهد تخيلي ومعرفي. هكذا جرى الظن بان أي رجل او امرأة على قدر معقول من التعليم، انما هما قادران على اتقان هذه (القوانين) الشعرية وادارتها بنجاح ومهارة واستعادة ذاك (العمود) في نص شعري حديث. ثمة توهم شديد بمعنى الحداثة نفسها ومحتواها وتاريخها.
هذا الوهم هو الذي يؤدي الى انحسار رقعة انتشار النص الشعري، إضافة بالطبع الى وجود عناصر موضوعية لعل أبرزها انتقال البشرية من عصر (المكتوب) الى عصر (المرئي). إذا كنا في عصر الصورة فإننا، في الوقت ذاته، في عصر التحليل النقدي للأشكال الكتابية والمرئية.
ثمة لدينا إذن الغالبية (الشاعرة) من جهة وثمة، من جهة أخرى، النخبة (القارئة) الحقيقية للقصائد. هذه النخبة الموجودة على هيئة نخبةٍ للنخبةِ يتوجب البحث عنها وبعثها للملأ ومنحها دوراً رئيسياً بصفتها الناقد الحقيقي للشعر بدلاً من التهافتات الصحفية التي تزعم قراءات نقدية للنصوص. أننا نظن ان قلةً تقرأ الشعر بهدوء وبعمق، نأمل ان تعبر عن نفسها بشكل آخر غير الصمت، خيرٌ من كثرةٍ تكتبه بعجالة واستخفاف شديدين نأمل ان تلوذ بالصمت العميق رديف التأمل واستنطاق الذات.