استعمال البيانات لإيجاد حل وسط

بيورن لومبورج
أستاذ زائر في كلية الأعمال في كوبنهاغن.
الحقيقة المحزنة لهذا العصر الحزبي المُسيس هو أن العديد من المقترحات السياسلة يتم تحديدها على أنها إما «يسارية» أو «يمينية» كما تتعرض للإشادة والسخرية من قبل الحزبيين بصفة متكررة، مع فرص قليلة لمناقشة حقيقتها أو عواقبها. لكن هناك بديلا يمكن أن يساعدنا على تجاوز هذا الانقسام السياسي: استعمال البيانات لمساعدتنا على التركيز على السياسات والاستثمارات التي سيكون لها أكبر أثر إيجابي على المجتمع.
وقد يبدو ذلك وكأنه تجربة فكرية مثالية في برج عاجي، لكن السياسات التي تعتمد على البيانات تؤثر تأثيرا حقيقيا في العديد من البلدان.
في بنغلادیش، تقوم الحكومة رسمیا بالبحث عن التدابیر المطلوبة ليبذل خبراء اقتصادیون مستقلون من البلاد وحول العالم قصارى جهدهم لمضاعفة الرخاء والرفایة. وفي هايتي، يدرس الخبراء المحليون والدوليون العشرات من السياسات للقيام بالشيء نفسه.
وفي كلا البلدين، تطبق المنهجية الراسخة لتحليل التكاليف والفوائد على التدخلات المتنوعة مثل تدابير مكافحة الفقر والتعريفات الزراعية وتحصين الأطفال وإصلاح المساعدة القانونية وحلول الحكومة الإلكترونية وإعادة بناء القوات المسلحة.
إن تحليل التكلفة والفوائد يبدو سيئا بنحو واضح أو ربما قاسياً. فهو يختزل سياسة معقدة في مجموعة من الأرقام: إذا استثمرنا دولاراً إضافياً واحداً (أو يورو، تاكا، غورد، أو بيزو)، سوف نحصل على عائد أعلى بأضعاف المرات.
هذه البساطة تناقض أرقام الخبراء المركبة. لنأخذ كمثال استثمار واحد دُرس في مشروع هيتي بريوريس: ثقافة الصناعات الزراعية، التي تساعد المزارعين على زراعة الأشجار بين المحاصيل والمراعي.
هناك بالتأكيد فوائد اقتصادية: يحصل المزارعون على دخل إضافي من بيع الأوراق والبذور والأخشاب. وهناك أيضاً عوائد اجتماعية تتمثل في انخفاض معدلات سوء التغذية، لأن المحاصيل الإضافية تولد قيمة غذائية أكثر مما تنمو حاليًا. وهناك أيضاً منافع بيئية قوية، مثل انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتحسين تدفق المياه للحد من الفيضانات، وزيادة عمليات التلقيح الطبيعية.
ويشمل تحليل التكلفة الفوائد التالية: الفوائد الاقتصادية، والمنافع الاجتماعية للبلد، والمنافع البيئية للعالم (وربما التكاليف). ونتيجة لذلك، يتداخل هذا النهج مع الحقل السياسي.
ويوضح تحليل تكاليف الأهداف الإنمائية للأمم المتحدة ذلك. فمن ناحية، كشف التحليل أن التجارة الحرة ستكون واحدة من أفضل السياسات الإنمائية، إذ تُخرج 160 مليون شخص من براثن الفقر وتضيف لكل شخص في العالم النامي 1000 دولارا في المتوسط. وعلى الرغم من أنها ليست في صالح رئاسة ترامب، إلا أن التجارة الحرة هي من العناصر الأساسية اليمينية. لكن من خلال تحديد الفوائد الأسوأ حالا في العالم، يوفر البحث أيضاً أسباب تجعل اليسار يعيد النظر في معارضته لها.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الأولوية الإنمائية الأخرى الموصى بها بشدة، والتي تحسن إمكانية الحصول على وسائل منع الحمل وتنظيم الأسرة، يدعمها اليسار بشدة ويعارضها اليمين في كثير من الأحيان. ويشير البحث ليس فقط إلى انخفاض وفيات الأمهات والأطفال، ولكن أيضاً إلى الفوائد الاقتصادية، وربما يعطي الحق لليسار لإلقاء نظرة أخرى.
وعادة، لا تجري الحكومات تحليلا للتكاليف والمنافع إلا بطرق محدودة، وتفحص كل سياسة على حِدَة. هذا النهج المتناثر يمنع مقارنة السياسات. وبدلا من ذلك، غالبا ما تنفق أموال دافعي الضرائب على القضايا التي تحظى بأكبر قدر من اهتمام وسائل الإعلام أو القضايا التي تستأثر باهتمام أصحاب المصلحة الملتزمين.
لا ينبغي أن يكون تحليل التكلفة والفوائد المدخل الوحيد لعملية اتخاذ القرارات الحكومية. لكن بالنسبة لبلدان مثل بنغلاديش وهايتي، فإنها توفر جرعة حيوية ومستقلة من البيانات التي يمكن أن تستند إليها القرارات السليمة.
وفي بنغلاديش، تم تحديد ثلاث أولويات قصوى من قبل البحث ومن قبل فريق من الخبراء بما فيهم الحائز على جائزة نوبل وأختصاصيي التنمية في البنغلادش: حلول الحكومة الإلكترونية، وتحسين الوقاية من داء السل، وتغذية الأطفال. وهذا العمل مفيد أيضاً لخطة العمل الوطنية للتغذية، وكذلك لسياسات «بنغلاديش الرقمية». ويساعد مركز أبحاث الحكومة البنغلادشية على نشر المعلومات عن الحلول الأفضل للوزارات والهيئات الحكومية.
وفي هايتي، ما يزال الباحثون يعملون – لكن يبدو أن النتائج المبكرة واعدة. وتبين دراسة مدهشة الوفيات بسبب إصابة أو مرض التي يمكن الوقاية منها. وهناك العديد من تحديات النظام الصحي، والتي يستكشفها باحثون آخرون في المشروع. لكن إجابة واحدة تكمن في توفر المزيد من سيارات الإسعاف. 2٪ فقط من الحوادث وحالات الطوارئ يتم الوصول إليها بواسطة سيارات الإسعاف المجانية، حيث لا توجد سوى 100 سيارة إسعاف لعشرة ملايين نسمة.
وكشفت السيدة كريستينا دوريسكا، الخبيرة الاقتصادية في وزارة الصحة والسكان في هايتي، أن ما يقرب من 000 4 شخص يمكن إنقاذهم سنويا عن طريق إنشاء شبكة إسعاف وطنية. لكن هذا يكلف ارتفاع السعر السنوي بنحو 33 مليون دولار – أكثر من 1٪ من الميزانية الوطنية بأكملها لهايتي. كل دولار ينفق سيخلق ما يقرب من ثلاثة دولارات من الفائدة الاجتماعية – إنه استثمار قوي، إن لم يكن رائع.
وهناك خيار أكثر تواضعا يمكن أن يساعد، على المدى القصير، أكثر بكثير مقابل كل دولار ينفق. وستبلغ تكلفة تداريب المدرسين وقادة المجتمعات المحلية للعمل كمساعدين طبيين ومنقذين 1.1 مليون دولار، لكن بالمقابل سيقومون بإنقاذ حياة نحو 700 شخص كل عام. كل دولار سيولد 16 دولاراً من الخير الاجتماعي، وسوف يساعد هايتي بنحو أكبر.
ويساعد البحث في هايتي وبنغلاديش، وقريبا في ولايتين هنديتين على توفير معلومات تسمح بالإجابة على السؤال: «ما هي المجالات الأكثر نفعا التي ينبغي استثمار الموارد الإضافية فيها؟» إنه نهج يجب أن يصل إلى الخطاب السياسي في كل بلد.
ومع إجابات من شأنها إرضاء الناس وإحباطهم على جانبي الانقسام السياسي، فإن إبداء مزيد من الاهتمام لتحليل موضوعي وعادل للتكاليف والمنافع سيكون لا محالة وسيلة لإيجاد أكثر السياسات نجاعة والتي يمكن أن نتفق عليها جميعاً.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة