في قولنا ((النقد الحديث))، هكذا مطلقا من غير توصيف، إنّما نفتح بابا يفضي بنا إلى أيّة فعّاليّة نقدية، تُمارَس على أيّ نص من النصوص، وفي أيّ حقل من حقول المعرفة الإنسانية، من تاريخ وفلسفة وأدب ورسم ومسرح، وغير ذلك. وبحسب هذا التعدّد تتنوع خصوصية مفهوم النقد، مثلما تتنوع أهدافه وطبيعة اهتمامه. فأولويات النقد حين ينصب على نصوص أدبية هي فحص تلك النصوص للوقوف على سمة الأدبية ومساحات الجمال فيها، ولا شيء يمنعه من فحص البعد الثقافي في تلك النصوص، فهذا بعض شؤونه.
د. عبد العظيم السلطاني
في حين أولوية النقد في العلوم الاجتماعية الأخرى كالفلسفي أو التاريخي، هي النظر في محتويات النصوص وتحليل ما تحمله من معلومات وأفكار…الخ. فالنقد الحديث بمعناه العام مفتاح ينفع العلوم الاجتماعية كلّها. بل إنّ بعض الفلسفات ارتبط اسمها بكلمة ((نقد))، كـ ((الفلسفة النقدية)) للفيلسوف ((كانط)). أمّا مصطلح ((النظرية النقدية)) الشائع فهو مرتبط ارتباطا وثيقا بمجموعة النقاد الّذين مارسوا نقدا فلسفيا، مركزه الأساس فكري اجتماعي. وهم هوركهايمر وأدورنو و إريك فروم… . ومثلما نجد نقدا في حقل الفكر والفلسفة نجد نقدا لمناهج التاريخ ونصوصه، وهنالك عشرات الكتب التي على شاكلة كتاب ((النقد التاريخي)). وقس على ذلك واقع النقد في الدرس الاجتماعي. مثلما نجد نقدا خاصا بحقل الفنون بأنواعها، من رسم ونحت ومسرح…
لذا حين نتحدث في الوسط الأكاديمي عن النقد الحديث المتعلق بالحقل الأدبي؛ نكون ملزمين بذكر صفة ((الأدبي))، احتراما للدّقة العلمية والتخصص الأكاديمي. وبخلاف هذا فحين نقول ((النقد الحديث)) ولا نقصد به سوى ما مُتحقّق في المجال الأدبي دون غيره، نكون بهذا قد احتكرنا المصطلح وضيّقنا دلالته الواسعة. وألغينا وجوده في الحقول الإنسانية الأخرى. وهذا لا ينسجم مع الدقة العلمية الأكاديمية في استعمال المصطلحات.
هنالك ثلاثة أسباب عملية قد تدعو إلى التخلي عن صفة ((الأدبي)) والاكتفاء بـ ((النقد الحديث)). أولها الميل إلى الاختصار، وهذا يحصل حين يتأكّد الكاتب من عدم حصول اللبس، مستندا إلى سياق الكتابة، حين يدور النقد في موضوع الأدب لا غيره، أي حين يكون الموصوف مكتفيا بالدلالة من خلال سياق القول. وقد نتوسع في ضرورة الاختصار فنقول ((النقد الحديث)) حين نكون في الأقسام المتخصصة بدراسة اللغة والأدب. وهذا قدي يصح حين لا توجد توجّهات فكرية في تلك الأقسام تجد في الأدب ذلك المفهوم العام الذي يضم التاريخ والفكر والفلسفة…وتجد في مفهوم النقد بوابة لا تقل اتساعا عن مفهوم الأدب العام. وللأسف الشديد هذا صار واقعا متحققا الآن، في ظلّ فهم مشوّش لواقع ما بعد الحداثة، ليكون معناه: أيّ شيء في أيّ شيء وبدون أيّ شيء. لذا وجب الاحتياط بذكر ((الأدبي)) داخل هذه الأقسام التي تدرّس الأدب والنقد برؤية مشوّهة، مقصودة أو غير مقصودة. وكي لا يكون الاختصار كلام حق أُريد به باطل.
وثان تلك الأسباب الحاجة البحثية الخاصة، التي يمكن أن تدفع بعض النقاد والباحثين إلى حذف صفة ((الأدبي)) لتمكّنهم من العمل في المشترك بين الأدب وغيره، كنصوص التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع. وهذا نجده مُجسّدا على سبيل المثال في ((الدراسات الثقافية)) التي تعمل في أكثر من حقل. كتلك الدراسات التي كتبها إدوارد سعيد وبحث فيها تجليات النظرة الثقافية الغربية للشرق، في مختلف الفعاليات والمنتجات الأدبية والفكرية والسياسية والميثيولوجية. لأن سؤال بحثه النقدي سؤال فكري ثقافي، وليس دراسة الأدب بوصفه خطابا هويته الخصوصية الأدبية. فهو يبحث في فعل الثقافة في مختلف الفعاليات الحياتية ونصوصها، سواء أكانت نصوصا أدبية أم غير أدبية. فصفة ((الأدبي)) تعيق البحث في هذا النوع من الدراسات الثقافية المتعددة الحقول، لأن تلك الصفة تحصر النقد بحقل الأدب دون غيره. في حين غايات هذا النوع من الدراسات الثقافية شاملة لأكثر من مجال وأكثر من تخصّص. وهذا النوع من الدراسات الثقافية تخصص مستقل بذاته. ومثل هذه الدعوة العابرة للتخصّص لا تنفي وجود الأدب، ولا تلغي وجود ((النقد الأدبي الحديث)) وهي ليست بديلا عنه. فهي تبحث في تجليات الثقافة في الخطابات الثقافية المتنوعة، سواء أكانت في الأدب أم في غيره. وهذا لا يعني محو الحدود الرئيسة المميزة لتلك الحقول، بل يعني فتح منافذ الحدود، وعبورها للتفتيش في مختلف التخصّصات عن موضوع بعينه، كان قد اخترق تلك الحقول، وكان له فيها وجود وأثر وتأثير.
وثمّة نوع آخر من الحاجة البحثية قد يدعو إلى عبور التخصصات، فيستدعي ذلك حذف صفة ((الأدبي)) تلبية لأغراض تلك الحاجة. كذهاب النقد للتفتيش في موضوعات هي مساحات بينيّة ونهايات مشتركة بين حقلين أو أكثر وحقل الأدب أحد مكونات ذلك الموضوع المشترك. كالمساحة المشتركة بين الأدب والتاريخ، أو بين الأدب الاجتماع، وما إلى ذلك. فغاية النقد هنا التفتيش في هذا الجديد الذي امتلك صفات و ((جينات)) خاصة به، ولم يعد منتسبا بشكل تام لأصل من الأصول أو حقل معيّن. بل هو جامع للمشترك والمتفاعل المتناسل من الحقلين، وقد يشترك أكثر من حقلين في إنشائه.
تتضمن طروحات ثقافة ما بعد الحداثة، رغبة واضحة في عبور الحدود، بين أنواع الصيغ الفنية للنصوص والخطابات الأدبية، كالرواية والشعر وغيرهما. وهذا المستوى من العبور – أو حتى الهدم أحيانا – يمكن تفهّمه والقبول بتجسّداته النصّية كلّها أو بعضها، حين تكون صيغا جديدة قادرة على التعبير الفني، ولا تلغي وجود الأدب في الحياة. ومثل هذا المستوى من هدم الحدود بين صيغ الأدب لا يستدعي حذف صفة ((الأدبي)). فهذه الصيغ الجديدة مازالت مُستظِلّة بمفهوم الأدب، الذي يعبّر عن العاطفة والفكر، ويعبّر عن موقف في الحياة، ويستعين بالخيال، ويتفنن في الأساليب، ويجد اللغة غاية، فيصوغ من خلالها صياغات مجازية مؤثرة موحية. وبهذا المعنى لا يجد الأدب نفسه غريبا في عالم ما بعد الحداثة، بل يجد في طروحاتها دعوة لفتح آفاق جديدة له، ودعوة لعدم التعصب للصيغ الفنية التقليدية، فهي ليست مقدسة بصيغها التقليدية، وإن كانت المعرفة بأجناس النصوص تساعد في فهم النصوص وإدراكها بطريقة أفضل. ولكن مهما تكن الصيغ الفنية للنصوص الأدبية – حين تكون حقيقية – يمكن لنا أن نجد صفة الأدبية/روح الأدب منغرسة فيها. ولكن الخطر على الأدب يأتي حين تبالغ بعض الطروحات لتدعو إلى دمج الأدب بغيره من سائر أنواع القول، والتعامل مع كل النصوص بوصفها خطابات متساوية. لتُلغى خصوصية الخطاب الأدبي. فيترتب على ذلك محو الفرق بين النقد الأدبي وسائر أنواع النقد في الحقول الإنسانية الأخرى.
وهنا تبدو بوضوح أكبر أهمية إثبات صفة ((الأدبي)) للنقد الحديث الخاص بالحقل الأدبي. فهذه الصفة تحفظ لهذا النوع من النقد وجوده وخصوصيته، وتحفظ للأدب خصوصيته بوصفه نوعا من القول له سمات وخصائص، وتحفظ للتخصصات الأكاديمية دقة التخصّص الذي هو سر وجود الجامعة. لكي يتخرج الطالب في الأقسام التي تُدرّس الأدب والنقد وهو قادر على تحليل نص أدبي، و قادر على تذوّق الأدب، أو على أقل تقدير أن يكون قادرا على تمييز الأدب من غيره. فلو استشرت الفوضى أكثر مما هي مستشرية الآن وساحت التخصصات على بعضها بلا محدّدات، وسُمح للجهل أن يُغلّف نفسه بمصطلحات برّاقة، ليتخفى ويعتاش في ظلّ الفوضى؛ لو سمح لكل هذا فستخرّج الجامعات – وبشكل رسمي – أجيالا لا تميّز بين النص الأدبي ونشرة الأخبار أو محضر تحقيق لحادث دهس في مركز من مراكز الشرطة.