فرهدة الفرص

لم يمر وقت طويل على تبخر رموز وصور ومؤسسات النظام المباد ربيع العام 2003، حتى اجتاحت أسلاب ذلك النظام حشود من الجماعات والأفراد، كل مواهبها تنحصر في رشاقتها على سد ذلك الفراغ وشراهتها على قضم كل أنواع الثروات والمناصب والامتيازات، خلف وابل كثيف من الذرائع والمبررات، والتي لم تلبث أن كشفت عن زيفها وتنافرها مع المصالح الحيوية لسكان هذا الوطن المنكوب بسلالات القوارض وضياع المعايير. لقد شاهدنا جميعاً نوع المخلوقات التي تسللت الى سنام المسؤوليات لا في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والسياسية والإعلامية وحسب بل الى حقول الثقافة والإبداع والابتكار، حيث تبسط “العملة السيئة” هيمنتها لتطرد من الساحة كل ما يمت بصلة لـ “العملة الجيدة”. منذ أربعة عشر عاماً وعملية إعادة تدوير البضائع النافقة، تجري على قدم وساق ومن دون أن يعكر صفوها أي حراك جدي، سوى بعض الصخب والضجيج الذي يحاول تقمص أدوار وعناوين بعيده عنه كل البعد. المتخصصون في مجال (فرهدة الفرص) ينحدرون من شتى المعسكرات (المعارضة السابقة وفلول النظام المباد وما بينهما من حالات انتقالية). ففصائل المعارضة السابقة وعلى مدى عقود من الفشل المتواصل تمكنت من إبعاد وتهميش الملاكات الفاعلة عن صفوفها، وهذا ما نضح عن تجربتها في الحكم بعد “التغيير” عندما أسندت المسؤوليات المفصلية في السلطة الجديدة، لعناصر لا تملك أدنى شروط ومستلزمات تلك المناصب الحساسة (وزراء، رؤساء هيئات، مدراء، سفراء و..) مما ألحق أشد الضرر بحاضر ومستقبل العراقيين جميعاً.
إن الأحزاب والكتل المهيمنة على المشهد الراهن، وبسبب من ضيق أفقها وسياساتها البعيدة عن الحكمة، شرّعت الأبواب أمام جيل جديد من الوصوليين والانتهازيين كي يتسللوا الى الوليمة الأزلية، ومن خلالهم تحولت الدولة ووظائفها من شتى المستويات، الى بوابة أساسية لكسب الأنصار والأتباع وبالتالي الأصوات لمواسم الاقتراع. عندما نقتفي أثر هذا الوباء الفتاك (فرهدة الفرص) نكتشف حجم الكارثة وأهوالها، لا سيما بعد أن أصبح “الفساد مألوفاً وجزءا من الأثاث” كما يقول أحد الأدباء العالميين. لقد أصبح أمرنا أكثر صعوبة، بعد أن تورطت قطاعات واسعة (أفراداً وجماعات) بشبكة الفساد الأخطبوطية، حيث نمط الحياة نفسه (وظائف ورزق ريعي) والاغتراب عن كل ما يمت بصلة للإنتاج وتراكم الثروة وتوزيعها، والإبداع والابتكار؛ يضخ لدغل الشراهة والطفيلية والفساد كل ما يحتاجه من اجل التمدد والبقاء.
مثل هذه التقاليد الممتدة بجذورها الى إرث عريق من قيم (الغنيمة والفرهود) لا يمكن لها غير تزويدنا بالضياع والمزيد من الخراب. وهذا ما حصدناه قبل “التغيير” وبعده، ويكفي نظرة سريعة لنوع ومؤهلات الأشخاص في الوزارات والهيئات والإدارات والمحافظات وكذلك النقابات والجمعيات وما يسمى بمنظمات المجتمع المدني وغيرها من التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية؛ حتى ندرك حجم البؤس وعظم مصابنا بما تدفق عن حقبة الفتح الديمقراطي المبين. مثل هذه العناصر المجردة من الموهبة والخبرة، توضع على رأس مؤسسات تضم ملاكات مخضرمة ومتميزة في مجال تخصصها، وفي الوقت نفسه نجد غير القليل من المبدعين والعلماء العراقيين ما زالوا في المنافي، والبعض منهم قلدته تلك البلدان أخطر المسؤوليات في شتى التخصصات والمهن، وفقاً لمبدأ (الإنسان المناسب في المكان المناسب) من دون الالتفات لنواقصهم الفاضحة في فن فرهدة الفرص..!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة