محمد جودة العميدي
عبر لغة فنية سلسة صاغ الشاعر المبدع عبد الهادي عباس خطابه الشعري الخاص به متبوئا مكانه في عالم قصيدة النثر باقتدار ووعي بهندسة القصيدة ومعناها ، فأصدر ديوانه (…أو هكذا هي العاصفة ) الذي يضم بين دفتيه ( سبعين ) قصيدة نثر تتناول ثيماتها مواضيع مختلفة بأسلوب تتجلى فيها الذات الشاعرة بوضوح معبرا عن رؤيته و تجربته الذاتية . وما أن يقف القارئ على عتبة الديوان حتى تتملكه مشاعر وأحاسيس شتى ، فتارة تأخذه مشاعر الفرح والتفاؤل وتارة تأخذه مشاعر الحزن والالم بما ترسمه الصور الشعرية من مصداقية في وصف ما تشهده بلادنا من مظاهر الطائفية و التهميش و التلذذ بتآكل الذات . والشعر هو النظر الى العالم بعواطف مرهفة و حساسة تهتز عندها ذات الشاعر أمام الحياة و الكون . وغاية الشعر – كما يرى الدكتور عبد الواحد لؤلؤة – هي « هز الوجدان و العقل».
وبذلك تكون مهمة الشاعر هي حل الألغاز وفك شفرات الأشياء ومعرفة أسرارها ، وحينها يكون الشعر هو الفضاء الذي تكمن عنده كل المعاني الروحية و الوجودية للإنسان. وقصيدة النثر باعتبارها توظيف للتجربة الإنسانية والمشاعر الذاتية وما يؤثر فيها من عوامل شتى هي بذات الوقت عملية خلق وإبداع تبرز فيها حوارات ثنائية بين ذات الشاعر و الوجود. وقصيدة النثر ليس انفتاحا مطلقا للخطاب التعبيري على الأنساق الشعرية والسردية ، بل هي فضاء مفتوح لكنه مقيد لأنه يتطلب جهدا لغويا وموسيقيا وتصويريا متميزا . في هذا السياق تأتي قراءتي النقدية لديوان الشاعر عبد الهادي عباس (.. أو هكذا هي العاصفة ) في محاولة لرصد سمات خطابه الشعري من : صورة شعرية و تكثيف لغوي و وصور بلاغية و إيقاعات وترميز وكذلك تقصي الدلالات التي يكتنزها خطابه الشعري ومعرفة الثيمات التي تتفاعل معها ذات الشاعر .. في قصيدة (صورة أبي ) التي تتصدر الديوان استحضار لحقيقة غائبة مفادها ( ان البشر يتغير بتغير الزمن ) . كتبت القصيدة بأسلوب سلس ومفردات جميلة و مؤثرة . وفي ( نصوص – الفئران ) ، نص ناضج جدا حيث نجح الشاعر وبمهارة مقاربة السلوك و أنسنة سلوك الحيوان . وهي أحدى المحاولات السايكولوجية لمدرسة بابلوف الروسية في علم النفس.
تتسلق هذي الفئران كانت ترفع لائحة لحقوق الحيوان وتجر العربات الفيلة و انتشرت فيها القتلة حتى ضاع ضمير الانسان. في النص أدانة لظواهر كثيرة تشهدها بلادنا من بينها ظاهرة التناقض بين سلوك الناس وبين ما يؤمنون به. فأين حقوق الانسان بين حالات ضياع الضمير الانساني و التهجير القسري والاختطاف و القتل ؟ وقصيدة ( الطيور) قصيدة رمزية تثير التأويل ، فهي تتطلب قارئا فطنا قادر على البحث و الاكتشاف . ولكون الرمز أحد عناصر المرجعيات المعرفية ( الابستمولوجيا ) فأن القصيدة تتطلب قراءتين مرة من الخارج لمعرفة ثيمتها ومرة من الداخل لمعرفة رسالة الشاعر وما يريد ان يلقيه الى المتلقي . ووقع القصيدة وموسيقاها معتدل فيها من الانسجام الصوتي الهارموني ما يبعدها عن الصخب . غادرت عشها وفيض من الغدر لاحقها فمالت رقاب هنا ونوبات جوع هناك فكيف الوصول لأشجارها ؟ وقراءة القصيدة من الداخل تشير الى رفض الشاعر للواقع المزري الذي تعيشه بلادنا وانتشار الطائفية ومظاهر القتل و الكراهية التي يبديها الكثيرون للآخرين بلا مبرر . في قصيدة ( دار ) ثمة اعادة لذكريات مخزونة في اللاوعي عبر تقنية ( الاسترجاع ) و الربط بين ذكريات الطفولة المدرسية و ما يعنيه (الدار) لدى الاطفال وما نعنيه نحن حين يكون هو ( المأوى) .. لا شك انه الوطن . وخاتمة القصيدة ذات مغزى ( تراجيدي) حيث حل الدمار و الانهيار في بلادنا.
وتتجلى الملامح الرومانسية بكل صورها في قصيدة ( قوافل ورد ) حيث المفردات : ورد – قمر – حورية –سحب – فراشات –ملائكة – حمامات الدالة على معالم الطبيعة وجمالها . ومقاربة الشعر من الحياة ، بل هو الحياة كلها تظهر ملامحها في قصيدة (اصرار) حيث تلعب تقنية ( الصورة البديلة) فعلتها عندما تحتل كلمة ما مكان كلمة أخرى . فأننا مازلنا على قيد الشعر أجاد الشاعر عبد الهادي عباس استخدامه لتقنية ( الصورة البديلة ) وتلاعب بكلماته بمرونة أكثر مما أضفى على نصوصه جمالية أكثر . لم يتناسى الشاعر الأثر الديني في نصوصه ، فالحس المقدس يبدو واضحا وجليا في قصيدة ( الراصد) لما فيها من حوار مشابه للحوار في قصة النبي موسى (ع) .. أهش بها حشرات فاسدة وبقايا أقنعة كاذبة في القصيدة رفض واع لظواهر شهدتها بلادنا من فساد في ادارة البلاد ومن ظواهر ( التدين الكاذب) ، حيث الكلام في الدين والسلوك المنافي له .. واتخذت قصيدة ( الواقع) منحى واقعي بإشارتها الى تغير المكان و الزمان ونوايا الناس فلم يعد المكان نفسه ولا الزمان نفسه ولا نوايا الناس نفسها . وفي القصيدة نصيحة وتحذير و دعوة للتأني. وبشكل عام ، فمن بين سبعين قصيدة تشكل كتلة النص الشعري هناك ثلاث عشرة قصيدة بالغة الوجازة. فهي قصائد ومضة تحمل فيها الشاعر ضرورات الوعي فكتب بصدق حيث يبحث الشاعر عبد الهادي عباس عن القيم الانسانية المفقودة الآن . ومن يقرأ النصوص يشعر بكثافة لغوية من خلال شحن المفردات بأكثر ما يمكن من الدلالات .. في ( نصوص قصيرة ) نقرأ قصائد الومضة : رسالة و السكين و الغيمة و تصحر و الوردة وخراب . وفي (قصائد ) نقرأ نصوص قصيرة : وردة و اطفالنا و توثيق كاذب و الطفل و النازح . وفي ( قصيدتان ) نقرأ قصيدتين هما : سؤال و الطفل .