دمبكجي

مفردة “دمبكجي” هي إحدى أشهر المفردات التي كان يتداولها مجتمعنا في العقود الماضية.. عند توجيه الإهانة لشخص ما.. وهي من المفردات التي تدخل في خانة التوصيفات السيئة التي تطلَق على الفرد فيما يُطلق على المجموعة توصيف “دمبكجية” وذلك عند قيامهم بفعل أو تصرف ما.. قد يعتقده البعض في ذلك الزمن.. أنه يتنافى أو لاينسجم مع طبيعة العادات أو التقاليد المجتمعية أو الدينية أو العشائرية.. وإذا ما أراد أحدهم في ذلك العصر الاقتراب من أجواء عالم الفن أو الموسيقى أو الطرب فإنه كان يُنعت بــ “الدمبكجي” !
و”الدمبكجي” تعني عازف الإيقاع وتحديداً عازف الطبلة، دمبك: يعني طبل… ودمبكجي: يعني طبّال !
أتذكر أن أحد أشهر المطربين في حقبة الستينيات الذي كان يتصف بالثقافة وحسن المظهروجمال الخلق.. قد عشق فتاة من الحي الذي كنا نقطنه في منطقة الكرخ، ومع أن هذا الفنان كان “قصده شريفاً” حينما أراد الدخول من الباب وليس من الشباك كما يفعل الكثير من شباب اليوم.. إلا أن طلبه قد رُفض من قبل “الحجي” والد الفتاة بداعي أنه لا يريد تزويج ابنته من “دمبكجي” وفشلت محاولاته وتوسلاته ووساطاته.. بثني أهلها عن قرارهم.. لأنه كان يصطدم في كل مرة بكتلة كونكريتية من الرفض القاطع لهذا الأمر.. بسبب اعتقاد أهل الفتاة بأن زواج ابنتهم من هذا “الدمبكجي” يجلب لهم عار الدنيا قبل الآخرة.. وانتهت قصة مطربنا العاشق بتزويج حبيبته من شخص بدين لاتحبه، وليعيش هو بقية عمره يلعن اليوم الذي خاض فيه تجربة الغناء والطرب الأصيل… الذي خسر بسببه حبيبته حاملاً جرحاً نازفاً لقلب موجوع بفقدان حبيته الجميلة !
وهنا أتذكر أيضا بأن أحد أقربائي الذي كان يمتلك صوتاً جميلاً قد شارك في برنامج الهواة.. الذي كان يشرف عليه حينذاك المخرج الراحل كمال عاكف حيث نجح في الاختبار بامتياز وتم قبوله في فرقة الإذاعة الى جانب الفنانين فاضل عواد وسعدون جابر وغيرهم.. وكان صاحبنا يذهب الى الاذاعة من دون علم والده، وعندما ظهر على شاشة التلفزيون بالأسود والأبيض لأول مرة وهو يؤدي ببراعة إحدى أغنيات الفنان الراحل عبدالحليم حافظ انتبه إليه بعض الجيران.. الذين سارعو لإخبار والده بأن ابنه صار “دمبكجياً” وعلى إثر ذلك، تلقى تهديدأ شديد اللهجة من والده الذي خيّره بين الجنة والنار.. وليحرم بلدنا من موهبة كان يمكن أن تحدث صدى طيباً حالها حال الكثير من المواهب التي أُجهضت وقُتلت في مهدها بسبب العادات والتقاليد والوشايات وسوء الظن والظنون !
وفي أحد الأيام جاءني صديقي الذي يعمل مسؤولاً إعلامياً في إحدى الوزارات ومتحدثاً باسمها وهو يستشيط غضباً والحزن بادٍ على محياه، وعندما سألته مستفسراً عن سبب غضبه وحزنه ؟
أجابني: “يا أخي والله لو مشتغل “دمبكجي” هم أحسن من وظيفتي الحالية!
قلت له: معقولة.. لماذا تقول هذا الكلام وأنت الذي تفوقت على أقرانك طيلة أكثر من عقد من الزمن وعُرف عنك مهنيتك وحلمك ووطنيتك… هم شهرة وهم نجومية.. سواء في الصحافة أوالتلفزيون ؟
قال: يا شهرة يا نجومية يا بطيخ.. يا أخي كيف لا أغضب… وأولادي بدأوا يوجهون لي اللوم لأني لم أحظَ بإيفاد الى خارج البلد.. كبقية المسؤولين.. بل وصل الأمر بأحدهم أن قال لي: بابا لو صاير “دنمكجي” مو أحسن من شغلتك هذه ؟
أجبته لماذا.. والكلام لصاحبنا ؟ قال: إن جارنا “صباح” يعمل طبالاً في فرقة موسيقية ولا يكاد يمر شهراً حتى يتم أيفاده الى أسطنبول أو باريس أو أوسلو أو فيينا أو القاهرة أو بيروت أو تونس أو روما..!
قلت لصديقي: لك الحق في ما تقول.. لكن “الدنمكجي” الحقيقي هو ذلك العازف والفنان الماهر الذي يمتع الناس ويُحترم من قبل المجتمعات المتحضرة ، ومن الظلم مقارنته بـ “دنمكجية” وحبربش الدوائر والوزارات الذين يستولون على كل الامتيازات والإيفادات فمنهم من صار يعرف بيوت وأبواب الشوارع الخلفية للعواصم والمدن الأوربية أكثر من معرفته لإزقة وأحياء”بيوت الطين” و”الصفائح المعدنية” في محافظته !

• ضوء
المواطن .. يرقص مذبوحاً من الألم!
عاصم جهاد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة