وطن بالدم.. وطن بالكلمات

نهى جعفر

يتوسد الحلم فراشا وثيرا من الكلمات في مجموعة ( كم علي أن أحبك) للشاعرة السورية علياء سروجي الصادر عن دار المهجر العربي في القاهرة وبروكسل, ليجسد وطنا متخيلا بسعة نافذة ذلك الحلم الذي أطلت عليه….
تتوسل الشاعرة ذلك الوطن ضمن حلقتين من الرؤية والتعبير ..يدوران بعبارة العنوان وقد اختارت أن لا تترجمهما بعلامات التنقيط ..لتوضح إن كان تعجبا أم استفهاما، تاركة له حرية الإخبار بعمق ذلك الحب الذي يختط علاقة متناسقة مع حباته المنتظمة داخل ذلك المتن المرهف …..
ولأن تلك الإضمامة تجسد وطنا ..وترسم آخر فقد جاءت حافلة بالثنائيات ,الحب والحرب , الحزن والفرح ,الموت والحياة, من خلال الصور المكثفة التي جسدت تلك الثنائيات:
الفرح هو البستاني الوحيد
الذي يتقن هندسة الأحزان
الحياة قارب اللذات المستحيلة
أمخر بالموت إلى خلودك الأرحب
قبل أن تمضي في طريقك
عد إلى جسدك مكمن وجودك…
تلك الرؤية التي تجسد الفرح بستانيا يتفنن في تزيين الحزن وترتيبه ليرصف حقوله بتلك الزهور التي بترت سيقانها..!!!!
فكل ما في ذلك العالم جرت إزاحته عن أمكنة وجوده الفاعل والحقيقي:
فوق المسرح المكتظ …
وقف قلبي يحتضر
الكل يبارك مقعده من الذنوب
الباقات ورود مقصوصة الساق
سلام على المراعي الموصدة
سلام على الأحصنة في البروج المحكمة
وهكذا أمسى الوطن مضرجا بدماء القيد فاختارت الشاعرة أن تنزوي في زوايا الحلم لأن خيوط القوة المرتجاة في إعادته تتقاسمها مدارات الضعف والقيد ..
تعبر عنه بالأنثى لضعفها ولأنها ترتجي من تلوذ به .. أو توسلا بصورة موغلة في القدم من صور التقاليد والأصالة والحمى :
قالتها عرابة المدينة الجديدة
بعد أن سرقت عباءة شهرزاد وهربت..
لأن قومي لا يحيكون لنسائهم
سوى الأكفان
لأن قومي
إما راحل في قوارب الموت…
وإما قتيل.. وإما
جبان.
فلم تتعامل الشاعرة مع تلك الصور تعاملا سطحيا بل كثفتها لاستجلاء الواقع المعاش ضمن تلك الرؤية الشعرية التي تسلحت بأسماء الأنبياء والأماكن وهي تمتاح من التراث ما يقدمها بشرعية تنحرف بها عن ترهات الخيال المطلق ومزالقه الضبابية التي تبتعد به عن الواقع :
في سلة مريم المنزلة
هل رأيتم فستق حلب
………………
لم يحتاج الأمر لحصان طروادة …
وفي موضع آخر:
الطهارة وحدها ملامح الكفن
عقاب آدم عن سرير حواء ..
وصور أخرى تجسد الأزمة التي تعيشها الأمة :
مشغوفة بك كحلم الفاتحين
باجتياز المعبر..
لكن السيوف التي تذبح باسم الله
تهزمني
وفي الوقت نفسه نلمس حلقة التعبير التي أطرت الرؤية فـ (السيوف التي تذبح باسم الله) عبارة مثلت الواقع وزيادة ,الواقع العربي الذي انطلق فيه التخريب من حيث موضع الصلاح والإصلاح (الدين)، وفي قصيدة (أعناق الشرائع) بالتحديد تنطلق الشاعرة من تلك المأساة التي صيرت الهدى ضلالا والرحمة ظلما :
عندما مدوا أعناق الشرائع
تحت سواطير الألوية …
نظر الدم إلى ربه فوجده ينزف
هل أحد يوقف الأحمر الماطر..؟
فالشرائع لويت أعناقها, وذبحت تحت سواطير ألوية الظلام محسوبة الخطى,
بشفاههم التي تقطر زفتا حارا قبلونا..
خلق يشتهون الخلق فينا
رجال ونساء يتبادلون النطاف
من تحت طاولة السياسة والثقافة
والمتعة الحلال ..
تملأ الشاعرة جرار التشخيص والتصوير الفني في هذه الفكرة لتحيل الوطن إلى جسد إسماعيل الذي استسلم للذبح فهو ليس إيحاء بالضعف أمام ما يحدث بقدر ما هو استحضار لقدسية الأرض وطهرها وتعرضها لذلك الابتلاء الشديد الذي أحالها كالذبيحة بين يدي الأحكام الدولية التي تحدثت عنها موظفة التراث في إيصال تلك الفكرة ممزوجة بروح الخطاب القرآني ليكون أشد تأثيرا في النفس من خلال إثارة تلك القناعات التي تستقر في عمق الفكر العربي الإسلامي:
لا تسألني عن عيوني
قامة إسماعيل الذبيح..
إبراهيم أبي
وبراءة الله من دمي …عيوني
هل أتاك حديث الأحكام الدولية؟
صهل جواد أمام سائس خيل من قحطان..
يوم باع قحطان امرأة عربية لتعمل خادمة في مكاتب فرانكفورتية
وعلى الرغم من لغة الأسى واليأس الطاغية على هذه القصائد فهي لم تغادر شرفات الأمل والتوسل بالغد القريب الذي تتلقفه الأجيال لرسم وطن مشرق يتحرر من إطار تلك اللوحة التي رسمت بالكلمات ليتمثل على أرض الواقع:
ما سئمت نفض غباري المجهد
لا أريد أن أريد أو لا أريد
الأجوبة
أو الأسئلة
سئمت حد المقصلة
سلام على البراعم التي لا تفنى……
ولابد للبراعم أن تكون أشجارا يغفو تحت ظلالها ذلك الحلم ليكون وطنا حقيقيا في يوم ما.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة