على العكس مما تعرفنا عليه لدى الأمم التي مرت بمحنة الحروب ومخلفاتها القاسية، عندما ألقت على عاتق أفضل ملاكاتها ومتخصصيها مسؤولية النهوض بمهمات إعادة البناء، واستثمار كل الفرص الممكنة لذلك، ولا سيما في مجال كسب ثقة وتعاطف المجتمع الدولي، وبالتالي جذب مساعداته واستثماراته لورش البناء والإعمار؛ نجد المفاصل الحيوية لمشروع بناء الدولة الحديثة، رهن إشارة ممثلي أكثر المحاصصات فشلاً في الفكر والتطبيق. ومن سوء حظ سكان وطن التجارب التأريخية، أن لا تخرج أخطر وأهم وزارة (الخارجية) من هذه القسمة العاثرة، إذ استبيحت سريعاً من حيتان الكتل المتنفذة، وتحولت الى مرتعاً محبباً للصف الأول من محظوظيها. ما جرى على تضاريس الجبهة الدبلوماسية، وبرغم مراراته وخيباته، لم يشذ عن القوانين المعروفة والفاعلة في هذا المجال، بوصفها (السياسة الخارجية) تمثل انعكاساً لما هو سائد من سياسات ونزاعات داخلية، لهذا نجد قوس قزح المحاصصة أو الشراكة أو دبلوماسيو “المكونات” يتقاسمون سفاراتنا وقنصلياتنا وفقاً لنسب الاقتراعات الديموغرافية التي تعلن عنها المفوضية المستقلة للانتخابات.
إن الحديث عن إمكانية حصول تحولات أو إصلاحات فعلية في الوزارة السيادية الأكثر أهمية، سيبقى حديث خرافة من دون ظهور تحولات في الجبهة الداخلية، وهذا ما لن يحصل على المدى المنظور. لذلك سيتم التفريط غالباً بفرص كسب ثقة المجتمع الدولي عبر دبلوماسية فاعلة تمد الجسور الى الخارج بعيداً عن الخطابات والتصريحات الشعبوية والآيديولوجية الضيقة، والتي تلحق ابلغ الضرر بالمصالح الوطنية العليا. إننا اليوم على أعتاب تحقيق الانتصار العسكري الحاسم ضد عصابات داعش، لا سيما وقواتنا العسكرية قد باشرت بتحرير ما تبقى من مدينة الموصل، وهي انتصارات لن تصل لغاياتها المرجوة، من دون حصول تحولات تنسجم معها في الجبهات الأخرى، وعلى رأسها جبهة النشاط الدبلوماسي التي ما زالت بعيدة كل البعد عما يحصل على جبهات الحرب ضد رأس الإرهاب العالمي، والدور المشرّف للعراق في هذا المجال. كان بمقدور وزارة الخارجية أداء ذلك الدور المنشود لها في مثل هذا الظرف الاستثنائي الذي يمر به العراق، لولا إصرار حيتان العملية السياسية الجارية على إبقاء هذه الوزارة السيادية، كإقطاعية دائمة لقطط المحاصصة السمان.
لقد شاهدنا جميعاً مكر ورشاقة حيتان العملية السياسية، عندما أبعدت الوزارة الأشد حاجة للتغيير (الخارجية) من قائمة التحولات التي شملت الكثير من الحقائب الوزارية السيادية منها أو الخدمية، وهذا ما سيلحق الضرر بالمشاريع الحكومية لمرحلة ما بعد التحرير، والتي هي بأمس الحاجة لسياسة خارجية فعالة، تعيد بناء جسور الثقة المتبادلة مع المجتمع الدولي، وتجهض كل محاولات جر العراق وتوريطه بنزاعات دول الجوار، عبر اعتماد المصلحة الوطنية العليا، سياسة تسحب البساط من تحت أقدام ما يمكن أن نطلق عليه بـ (دبلوماسية التشرذم) حيث الحركة المكوكية لممثلي المكونات الى العالم الخارجي والتي ألحقت أشد الأضرار بسمعة العراق ومكانته في المحافل الدولية. نحتاج الى بعث رسالة مغايرة للمجتمع الدولي، عبر اعتماد سياسة خارجية مسؤولة ومتوازنة، بوجوه وملاكات جديدة، لا تمت بصلة لنجوم الطبقة السياسية الحالية؛ رسالة تقرن الأقوال بالأفعال لكسب ثقة الأسرة الدولية ومؤسساتها الفاعلة بجدية التحولات والإصلاحات الجارية في البلد بعد انتصاره العسكري على داعش والعصابات الإجرامية.
جمال جصاني
الدبلوماسية الغائبة
التعليقات مغلقة