سلام مكي *
يبدو أن الهجمة الاعلامية التي تشنها قنوات فضائية وصحف ومؤسسات اعلامية، اشد شراسة واكثر عنفاً من الهجمة العسكرية التي تشنها داعش والتنظيمات المتحالفة معها، حيث ان نشاط الجماعات الارهابية يقتصر على حدود المنطقة التي تقع تحت سيطرتهم، في حين اثار الاعلام الداعم لها، يتجاوز حدود المناطق المحتلة الى ابعد منها بكثير، اذ نجده في كل مكان وزمان، وتكون الاخبار والاحداث التي ينقلها الاعلام اشد وطأة وتأثيراً في النفوس من الرصاص الذي يطلقه الارهابيون، فهؤلاء يستهدفون الروح المعنوية للإنسان العراقي، ويسهمون في بث المزيد من الشحنات الطائفية وخلق الازمات وافتعال الخلافات بين مكونات المجتمع، عبر بثها للأخبار بطرق ملتوية بعيدة عن الجانب المهني والاخلاقي التي يجب ان يتصف بها الاعلام. ونلاحظ اليوم، كيف ان الاعلام أسهم بشكل كبير في تأزيم واذكاء الروح الانهزامية لدى المؤسسة العسكرية وتسقيطها شعبياً ورسميا عبر بث الاخبار الكاذبة وتلفيق الاحداث التي تنال من الجيش ذاته او من قياداته المتواجدة في جبهات القتال. كما انها تنسب افعالا مشينة الى الجيش من انتهاك لحقوق الانسان وقتل الابرياء والتضييق على حرياتهم، او تسميه بمسميات شتى، كالميليشيات الطائفية أو جيش فلان، مما يعني عدم اعترافها بوجود هذا الجيش كمؤسسة تابعة للدولة العراقية مهمتها فرض الامن والدفاع عن الوطن من الهجمات الخارجية والداخلية، في حين يسمي الاعلام الجماعات الارهابية والتكفيرية بالثوار كنوع من اضفاء الشرعية على الممارسات المشينة التي يرتكبها هؤلاء وبعث رسالة الى العالم بأن ما يشهده العراق من اعمال عنف وتمرد هو حق مشروع، معطية تبريرات غير منطقية ولا عقلانية، عبر حديثها عن تهميش واقصاء وظلم، من دون ان تعود تلك المؤسسات الى الواقع ولو لمرة واحدة لترى حقيقة تلك الادعاءات وهل ان الاسباب والتبريرات التي انطلقت الاعمال المسلحة بناءً عليها موجودة أم لا؟ الهجمة الاعلامية ضد العراق تشن من محورين، الاول داخلي يتمثل بالفضائيات العراقية المدعومة من شخصيات تدعي انها مناوئة لرئيس الوزراء ولكنها تمارس افعالا يجعلها تبدو مناوئة للعراق كله. والثاني عبر فضائيات تبث من دول عربية اقليمية وهذا يملك امكانيات، وادوات هائلة تفوق ما يملكه الاعلام الحكومي او المستقل ذو الوجه الوطني، فإمكانياته المالية والتقنية تجعله يبدو بصورة اكثر قبولا ومتابعة من قبل المشاهد العراقي وحتى العربي، وهو يعبر بالضرورة عن الخطاب الرسمي العربي الخليجي. هذا الخطاب الذي يحاول فرض وصايته على مكون معين من مكونات الشعب ويدعي انه يهدف الى حمايته. ممن؟ من شريكه في الوطن. ولم يكن بمقدور الاعلام الخارجي وبعض من الاعلام العراقي ان يمارس هذا الدور السلبي ويقف الى جانب اعداء العراق لولا توافر مجموعة من العوامل أهمها توفير البيئة المناسبة له واحتضان مراسليه وقنواته الفضائية، فهناك مناطق جعلت من اراضيها منطلقا لبث تلك الفضائيات واستوديوهات لعمل لقاءات وحواريات بين اشخاص يجاهرون بعدائهم للعراق وولائهم لداعش وللنظام السابق. كل هذا نكاية برئيس الحكومة الذي لا يفرق احد بينه كشخص وبين العراق كدولة. الاعلام الذي جعل من بضع مئات من الارهابيين يتغلبون على فرقتين او اكثر من الجيش تضم الاف الجنود بكامل عددهم وعدتهم، وصور للعراقيين بأن هذا الجيش لا يمكنه التغلب على مئتين، وبالتالي فقدان الثقة بالدولة بأكملها. هذا الأمر ساعد كثيرا على ان يميل العراقيون في المناطق الغربية الى داعش اكثر من الحكومة على اعتبار انها الاقوى والاكثر مسكاً للأرض، بينما الحكومة غير قادرة على حمايتهم فيما لو اعلنوا ولاءهم لها. ويبدو ان بعضا من سكان تلك المناطق يترقبون انجلاء غبار المعركة، ليتبين لهم الرابح فينضموا اليه، ولما كان الرابح هو داعش فلا مناص لهم من الميل اليه، كل هذا سببه الاعلام ودوره.
فيما يخص المجتمع الدولي، فكلنا يتذكر كيف كان العالم مع العراق في حربه ضد داعش في الفلوجة والانبار، يوم كانت الفضائيات الخليجية وبعض من العراقية لا تضخ هذا الكم من السموم والاخبار، نتذكر كيف كان العراق قوياً عسكرياً واعلامياً، بينما اليوم نراه اقل قوة من الناحيتين، وبما ان المجتمع الدولي والقوى النافذة تحترم القوي اكثر من الضعيف وتشكل رأيها بناءً على ارض الواقع والمعطيات الخاصة إنها وجدت اخيراً ان الحكومة العراقية في الطرف الاضعف في هذه المعركة وان داعش هي صاحبة المبادرة وهي الجهة التي تهاجم دائما. وكل هذا سببه الاعلام، فالإعلام وحده هو الذي ينقل للعالم الخارجي الاخبار والدول الكبرى وصاحبة القرار تبني موقفها نتيجة لمتابعتها تلك القنوات اكثر من متابعتها للقنوات الوطنية. بالمقابل، يفترض بنا ان نجد اعلاماً، قوياً مضاداً للنهج الذي تتبناه القنوات المعادية، فيفترض بالقناة العراقية الرسمية والقنوات الوطنية الاخرى، ان تشكل غرفة عمليات لمواكبة ومتابعة التطورات الميدانية في ساحات المعركة ونقلها الى الرأي العام، عليها ان تكون نداً قوياً للإعلام المضاد، عليها ان ترافق الجيش في ساحات القتال، وتنقل الصور مباشرة وتوثق معارك الجيش، بحيث ان الخبر الذي تبثه عن انتصار يحققه الجيش، لا بد من ان يكون موثقا بالفيديو او الصور، كما يجب على الحكومة ان تقطع الطريق على القنوات الاخرى، عبر تقليل فرصهم في تغطية الاحداث. فالإعلام، منع اميركا من الدخل عسكريا لمحاربة داعش ومنعتها من اعلان دعمها الكامل للحكومة في حربها ضد الارهاب، والسبب كما صرح بذلك وزير خارجية الولايات المتحدة بأن حكومته لا تريد الاقدام على هذه الخطوة خوفاً من اتهامها بالتحيز! برأيي ان هذا التصريح يشكل منعطفاً كبيراً في سياسات اميركا اتجاه العراق، فهي تعترف بالإرهاب وداعش كجهات سياسية اكثر من كونها ارهابية، وهي تنظر الى الخصوم بعين واحدة! فمن الذي جعل اميركا تغير سياستها تجاه العراق غير الاعلام؟
كما ان السلاح الجديد الذي تم استعماله مؤخرا في الحرب التي يخوضها العراق ضد الارهاب هو سلاح الشائعة، فقد دأبت الفضائيات الداعمة للإرهاب الى بث المزيد من الشائعات المغرضة التي تحاول النيل من عزيمة الجيش وقادته وتعطي للناس عنه صورة سيئة، وتقلل من الروح القتالية للجندي العراقي، فمثلا بث تلك القنوات اخبارا مفادها ان قائد العمليات في تلعفر قد هرب الى اربيل على غرار القادة السابقين. هذا الخبر له مردودات سلبية هائلة سواء على الجندي او على المواطن البسيط، خصوصا وان قائد عمليات تلعفر يعول عليه كثيرا من قبل القيادة في بغداد ومن قبل الشعب عامة، في التصدي لهجمات الارهابيين وايقاف زحفهم نحو العاصمة بغداد. فكان بث الخبر في وقت يحاول الجميع من المرجعية الدينية والجهات الشعبية والوطنية ان تعيد الثقة للجيش بنفسه، وتؤسس من جديد لهيكلة وتغيير بعض القيادات المتخاذلة بما يؤمن عودة الروح المعنوية للجنود، فيا ترى: ما هو الاثر الذي ستتركه هذه الشائعة لو استمرت لوقت اطول وصدقها العراقيون؟ لكن القنوات العراقية المساندة للجيش سارعت الى نفي الخبر وبعضها اظهرت اللواء قائد العمليات في لقطات حديثة وبعضها قد اجرت لقاءً معه.
العراق، وبرغم انقضاء عقد من الزمن على التغيير، مازال مسرحاً للأزمات، وساحة لتصفية الحسابات، سواء كانت بين الدول المجاورة أو بين السياسيين انفسهم، وكان الاعلام هو المحرك الابرز لتلك الازمات، فهو قد عمد الى صب الزيت على النار وشحن الشارع العراقي، عبر الخطاب الطائفي من جهة والخطاب العدواني المحرض من جهة اخرى، فهناك فضائيات تعمد الى ايهام جمهورها بأنه مهمش ومواطن من الدرجة الثانية وان الطائفة الاخرى هي عدوته وستزحف نحوه في أية لحظة، مما جعلت المواطن الذي يشاهدها ويؤمن بها ينظر الى اخيه وشريكه في الوطن بعين الريبة والشك والعدوانية، بدل نظرة الاخوة. بالمقابل هناك فضائيات تصور لجمهورها بأن الطائفة الاخرى هي عدوته، وان المتطرفين والارهابيين يمثلونها، وبما ان هؤلاء الارهابيين يكفرونهم ويبيحون قتلهم فإن تلك الطائفة جميعها هي تبيح قتلهم وتكفيرهم. لذلك نقول وبكل اسف: ان الاعلام قد نجح في سنين قليلة بما لم ينجح به النظام الدكتاتوري السابق، من محاولات زرع التفرقة وايجاد شرخ معنوي كبير بين الطائفتين. فالإعلام العربي ومعه العراقي، حول المجتمع العراقي الى قنبلة موقوتة قد نتفجر في أية لحظة.
أي صورة يرسمها الاعلام لمستقبل اطفالنا؟ هو سؤال يتردد في ذهني، كلما شاهدت مناظر الذبح والقتل اليومي الذي تقوم به داعش وتنقلها لنا القنوات الفضائية سواء عبر موقعها على النت او على الهواء. اللقطات التي تظهر شخصاً واحداً يقوم بإعدام العشرات من الجنود والمدنيين، وتلك التي تظهر لنا صورا لأجساد بلا رؤوس، ماذا يمكن ان تخلف في عقلية وذهن من يراها؟ أي جيل سينشأ في جو مليء بصور الرؤوس المقطوعة والاجساد الممزقة؟ وهذه الصور لا تقوم الفضائيات وحدها بنشرها، فهناك صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنيت، هذه غالباً ما تكون تابعة الى تلك الفضائيات نفسها.
أين مصداقية الاعلام؟ برغم مرور عدة اسابيع على احتلال الموصل من قبل داعش، الا ان صورة الحياة العامة داخل الموصل مازالت ضبابية، فالإعلام الداعم للإرهاب وداعش يصور لنا ان الحياة تسير بصورة طبيعية بل انها اصبحت احسن من ذي قبل، عندما كانت تحت سيطرة الحكومة، وكانت مسألة ازالة نقاط التفتيش والسيطرات هي الحسنة الوحيدة التي يفتخر بها ذلك الاعلام متناسياً ان الحاجة لها انتفت عندما تحولت السلطة الى الجهة التي وضعت تلك السيطرات من اجلها. بالمقابل، نجد الاعلام الاخر، يصور لنا ان الحياة في الموصل اصبحت جحيماً وان داعش تقتل وتذبح الابرياء وخصوصاً من الطوائف والاقليات المختلفة معها، وانها تقوم بهدم قبور الانبياء والاولياء والكنائس. وهذا ما ينفيه الاعلام المضاد لها. والسؤال هنا: لو كان الاعلام الداعم لداعش محقا في ان الحياة طبيعية في الموصل وعادت مثلما كانت بل اكثر: لماذا نسمع يوميا بنزوح المئات من العائلات الموصلية؟ خصوصا وان اغلب تلك العائلات هي من الطائفة نفسها التي يدعي الارهاب انه يقاتل من اجلها؟ للأسف نقولها، ان اعلام داعش استطاع ان ينجح في ايصال رسالته الى العالم بأن ما يقوم به هو ثورة وليس ارهابا، وانه صاحب قضية، ولو ان لا احد من الدول اعترف بها لكن المواقف الاميركية المترددة في دعم الحكومة او في الاقل تنفيذ الاتفاقية بينها وبين بغداد او بيعها اسلحة تمكنها من استعادة زمام الامور، يدل على انها لا ترى داعش كجهة ارهابية وانما حركة ثورية تمثل طائفة معينة. اما الاعلام الحكومي فيبدو انه فشل في اقناع المجتمع الدولي بأحقية العراق في محاربة الارهاب ولم يستطع تحشيد الجهود الدولية في سبيل دعم العراق ولو سياسياً والوقوف ضد الدول الخليجية الداعمة للإرهـاب صراحـة.
*كاتب عراقي