بكل استرخاء وثقة تنساب العبارات والاصطلاحات الجديدة المعبرة عما انحدرنا اليه، فيما يفترض أنه مرحلة انتقالية، من أفواه نجوم المشهد السياسي الراهن؛ من نسيج (الشارع الشيعي، الشارع السني، الشارع الكردي، الشارع التركماني، الشارع الكلدوآشوري وما تتضمنه من شوارع وأزقة فرعية..) ثقة تستمدها هذه القوى المتنفذة من بنود الدستور، التي ضمنت لما أطلق عليه بـ (المكونات) حق تقرير مصيرها على تضاريس يعدّونها، لا تعدو أن تكون محض وطن تلفيقي أوجدته الصدفة وخرائط عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. شوارع تستوطن عقولهم وخطاباتهم التي تجد ترحيبا لا مثيل له من قبل شتى المنابر ووسائل الإعلام المطبوعة والسمعبصرية، حيث تم تمرير قاموس كامل من المفردات المتخصصة بنثر بذور التنافر والتشرذم بين شعوب عرفت آلاف السنين من العيش المشترك في أقدم المستوطنات البشرية.
قاموس التشرذم هذا يؤسس اليوم لمستقبل معتم لسكان العراق، وشراهته لن تكتفي بتقسيمه وفقاً لما تنسجه مخيلات ما يعرف اليوم بممثلي المكونات، بل ستستبيح بيوتهم الواهنة، كما هي تجلياته المبكرة التي نشاهدها اليوم عندهم جميعا، حيث التناهش الشيعي الشيعي والسني السني والكردي الكردي والتركماني التركماني وبقية القوافل المنتسبة لنادي التشرذم الوطني. أما من يدعي نصرة المشروع الوطني والحضاري خلف شتى الواجهات الحداثوية البراقة، ويحاول تقديم نفسه بوصفه البديل عن طاعون الشوارع القاتلة التي فتكت بأحلام العراقيين المشروعة؛ فالتجربة المريرة لأربعة عشر عاماً من زوال الدكتاتورية يكشف عن زيفها وخوائها وتخبطاتها نظرياً وعملياً، وقد أسهمت في خلط الأوراق لصالح سدنة الشوارع الطائفية والإثنية والجهوية الضيقة، عبر احتلالها لموقع لم تعد جديرة بتمثيله والدفاع عنه.
إن مرحلة الشوارع وممثليها الذين افترسوا فرصة لا مثيل لها أهدتنا إياها الأقدار العابرة للمحيطات، لا يمكن مواجهتها والحد من نفوذها، من خلال الاستعانة بنفس العطابات السابقة وأدواتها التلفيقية والتبريرية ونزعاتها الذيلية المسؤولة عن عدد غير قليل من الكوارث التي حلت علينا منذ لحظة اغتيال الجمهورية الأولى الى جمهوريات الشوارع والأزقة والجزرات الوسطية وما يحيطها من عشوائيات. لا يمكن ادعاء شرف المواجهة مع كل هذه الجبهات، قبل الإقرار بحقيقة ضعف حيلتنا وهشاشة قدرتنا الفعلية على النهوض بتلك المهمة العسيرة، وبالتالي حاجتنا الى تحولات نوعية على شتى الأصعدة، التواضع والشجاعة والوعي العميق هي ما نحتاجه لا الغطرسة الخاوية وتقمص أدوار الثوار والمصلحين العظام من دون وجع من قلب أو ضمير. أربعة عشر عاماً من الفرص التي لا تقدّر بثمن لم تهدر وحسب بل تحولت بهمة كتل الشوارع وممثليها في السلطات الثلاث وكذلك السلطة التابعة (الرابعة) الى نزيف هائل لما تبقى من بشر وشجر وحجر على هذه التضاريس المنكوبة. كثير منا يعرف حقيقة ما وصلت اليه جرافات مقاولي هذه الشوارع من طريق مسدود، بعد مشوار طويل من الخيبات والآلام، عندما تحولت هلوساتهم وبدائلهم الى سلسلة من الكوابيس لا في العراق وحسب بل جميع البلدان المسكونة بوهم الشوارع القاتلة والطائفة المنصورة والرسائل الخالدة.
قيل لكونفوشيوس ما أول قرار تتخذه لو صرت حاكماً، قال: إصلاح اللغة ..!
جمال جصاني
شوارع الهويات القاتلة
التعليقات مغلقة