صادق الشافعي*
كأن الناس ألفت العيش تحت حكم العسكر، أو كأن عيشها لا يحلو إلا في ظل حكمهم.
وهل كان هذا العيش حلواً حقاً؟ أو أنها العادة أم هو التدجين؟
ما يحصل الآن في ليبيا يقدم المثل الطازج أو الأكثر فظاظة عن هذه الحالة. ما يحصل في ليبيا الآن لا يهدد النظام وتراكيبه الكرتونية والمتنافرة، ولكنه يهدد بشكل جدي وقوي وجود الدولة الليبية ذاتها من أساسها وبكل مكوناتها، وينذر بتفتتها.
ما يحصل الآن هو النتيجة المرّة للطريقة والأجندات والأدوات الخارجية التي تم فيها إحداث التغيير وإسقاط النظام السابق. لكن الجذر الأساس لما يحصل الآن هو حجم الخراب وعمقه الذي كان قد حفره النظام المنصرف (نظام القذافي) ولمدى انتشاره.
فبعد 42 سنة من الحكم الفردي المطلق للبلاد بكل مكوناتها، كشف سقوط النظام انه لم يكن باقياً في ليبيا سوى مؤسسة الرئاسة (مع ما في استعمال كلمة مؤسسة من مجازية واسعة) ثم مؤسسة الأمن. عدا ذلك لا شيء سوى الخراب: خراب في المؤسسات التشريعية والقضائية، وخراب في المؤسسة التنفيذية بوزاراتها وإداراتها التي يفترض ان تقدم الخدمات للناس، وخراب في الاقتصاد، وتفكك في الوحدة المجتمعية لصالح ولاءات قبلية ومناطقية متنافسة الى حد التصارع، وتفكك وصل حتى الجيش فحوّله من جيش موحد الى كتائب مستقلة كل بذاتها يقودها الأبناء او المحاسيب.
لكن الصورة العامة في معظم البلاد العربية تظهر بوضوح انه منذ السنوات الأولى بعد الاستقلال الوطني سيطر الجيش على حكم الدول العربية الأكثر امتلاكاً نسبياً لمقومات الدولة الوطنية.
بدأ ذلك في مسلسل الانقلابات السورية بعد نكبة 1948 بعدها في مصر عام 1952 ثم في العراق 1958، وبعد سنوات قليلة من الحكم المدني عاد الى سورية في 1963، ولحقت بهم اليمن في أول الستينات ثم الجزائر بالانقلاب العسكري عام 1965 ثم عاد وتكرس مع بداية التسعينات حين انقض الجيش على نتائج الانتخابات التي جاء ت نتائجها لمصلحة جبهة الإنقاذ الإسلامية، وفي 1989 لحقت السودان حين نفذ الجيش انقلابه على توالي الحكم المدني بعد فترة النميري والذي جاء هو أيضا بانقلاب عسكري سنة 1969. وفي السنة نفسها أيضا جاء انقلاب القذافي ورفاقه. موريتانيا والصومال لم تكونا خارج هذه الصورة.
الأنظمة العربية الملكية والوراثية هي الأنظمة العربية التي ظلت فعلا خارج الصورة العامة المرسومة.
واقعياً استمر حكم العسكر في معظم البلدان المذكورة الى الفترة الحالية.
حتى عندما بدا وكأن حكومات مدنية هي التي تتصدر مشهد الحكم خلف ستار أحزاب سياسية أو هيئات مدنية، ظل العسكر في خلفية المشهد يمسكون بخيوطه الأساسية ويشكلون الضامن والحامي للحكم والقوى المشكلة له ولمصالحهم، ويحسمون في المواقف المفصلية. ثم ان وجود العسكر أصبح أساسياً في صلب مؤسسات تلك الأحزاب او الهيئات التي تتصدر مشهد الحكم.
العسكر، فرّخوا قوى أمنية وأجهزة نمت تحت عباءتهم ثم تعاظم دورها لتقوم، وبالتنسيق التام معهم، بدور أساسي في حماية النظام والحفاظ على ديمومته.
ليس المجال هنا لتقييم مجمل او تفاصيل الدور الذي لعبه العسكر في الحكم، فهناك أكثر من تجربة وأكثر من دور تتفاوت وتختلف في ما يميزها من خصائص، وفي ما لعبته من أدوار في أوضاع البلدان التي حكمتها ومدى ما قدمته او منعته لتطوير البلاد وتطوير وتقدم حياة أهلها على المستويات وفي المجالات الحياتية والديمقراطية والاجتماعية المختلفة.
هناك بلا شك تجارب كان طابعها العام إيجابياً في مراحل محددة من تاريخ حكمها نجحت خلالها في تحقيق إنجازات وطنية لصالح البلد وتقدمه، وتقدمات اجتماعية وحياتية لصالح أهل البلد، أبرزها مرحلة الحكم الناصرية في مصر.
وفي الفترة الحالية لا يمكن إنكار حقيقة ان الجيش، بوصفه مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع يمكن ان يلعب دوراً مهماً وإيجابياً في دعم وإنجاح ثورات الربيع العربي ( مصر وتونس)، وان يصبح دوره مطلوباً في حالات معينة للدفاع عن الثورة (مصر)، وأن يصبح ضرورياً في حالات الدفاع عن الوطن ووحدته وسيادته. كما يمكن ان يلعب دوراً سلبياً في حالات أُخرى.
لكن وبشكل عام، ظل حكم العسكر الممتد هو العامل الأساسي في كبح قيام حراك شعبي وتطور طبيعيين وديموقراطيين في المجتمع. وفي كبح المجتمع من المرور الطبيعي في عملية سياسية واجتماعية متراكمة يتم فيها انتاج قوى سياسية وهيئات ومنظمات اجتماعية ذات وجود ودور حقيقي وفاعل تقوم بدورها الطبيعي في إحداث عملية تغيير وتجدد ومعها عملية إحلال بشكل ديمقراطي ومتواصل.
تأثيرات عملية الكبح المذكور ونتائجها ظهرت بأجلى صورها في ما شهدته ثورات / هبات «الربيع العربي» في مخاضات ولاداتها من مصاعب وصلت حد الاستعصاء بالنسبة لبعضها وحد السيطرة عليها وحرفها عن مسارها بالنسبة للبعض الآخر.
فقد افتقدت هذه الثورات/ الهبات، بفعل الكبح المذكور وجود قوى سياسية وهيئات مدنية متبلورة وذات وجود وثقل وتمتلك الرؤى والبرامج لتقود تلك الهبات وتوصلها إلى مبتغاها وتحقيق أهدافها المنشودة.
والنتيجة، وباستثناء الحالة التونسية التي نأمل لها النجاح والاستمرار، ومع رؤية موضوعية للفوارق ولاختلاف الأدوار، عودة إلى العسكر أو تكريس لهم، لا فرق.
*ينشر بالاتفاق مع صحيفة الايام الفلسطينية