جمال جصاني*
الامم التي وصلت الى سن التكليف عبر مسيرة من الكفاح المرير والفتوحات العلمية والقيمية، اهدت سلالات بني آدم غير القليل من المصطلحات والمفاهيم الجديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر (الآباء المؤسسون) وهو قبضة من الشخصيات السياسية والفكرية المتميزة في كفاحها الدؤوب، وايثارها في خدمة الشأن العام، وشق الدروب الآمنة لشعبها في بناء الدولة الحديثة والمنسجمة مع روح عصرها وحاجات الحياة المتغيرة. ولاسباب مختلفة لم تهبنا الاقدار مثل هذه الزعامات المنسجمة والواعية لتحديات عصرها الفعلية، كي تنتقل بنا بعيداً عن دوامة الصراعات والثارات التي يقبع في محطتها الأخيرة متحف المنقرضات. لقد تدحرج بنا الحال بعد سلسلة المغامرات الطائشة والحروب بأنواعها والتجارب الخائبة، الى مستوى من العلاقات مع بعضنا البعض ومع الآخرين، خاصة من الاقوام المحيطة بمستوطنتا القديمة، لا يمكن ان يهضمه الا من اضاع بوصلته وتوازنه تماماً.
لقد اهدرنا، وما زلنا، فرصاً وامكانات لا تعوض، وبسبب ذلك الاصرار الاهوج على طرق تلك الدروب القاتلة، صرنا فريسة سهلة ومتاحة لكل اشكال الشراهة والاستهتار العابر للتضاريس الوطنية، لقد وصل بنا الحال في حروب نهشنا لبعضنا البعض، لنهرول كل على وفق ترنيمته الخاصة للولوج الى احصنة طروادة التي اطاحت بكل ما تبقى لهذه المستوطنة من طلول الاسوار. خنوع وتنازلات هائلة دفعتنا الى ضفاف غيبوبة نغوص الى اعماقها عبر النجدة القادمة إلينا من دول الجوار وما بعد الجوار، هذا المشهد الذي تعجز عن رسمه ريشة ابرع المخيلات السريالية، جعلتنا نهدي العالم ابتكاراً يعد قفزة في مجال فقه العلوم السياسية الحديث، الا وهو (الجيران المؤسسون)ـ حيث تسللت مجساتهم واستثماراتهم ونفوذ ملاكاتهم ووكلاؤهم المحليون لا الى التضاريس الجغرافية والاقتصادية وحسب بل تغلغلت عميقاً الى حيث مصادر القوة والمصائر والقرار. لا شيء يقف امام نفوذهم الكاسح، خاصة بعد تصدر وكلائهم (عراقيو دول الجوار) المشهد السياسي والاقتصادي والاعلامي الراهن. وكل من يتابع تطور الاحداث ونوع الفرسان الذين امتطوا صهوة المفاصل الحيوية لما يطلق عليه (الدولة والمجتمع) لا بد من ان يقف أمام كل هذه الجرأة والصلافة التي تميز غير القليل منهم في التباهي بمثل هذا الانتساب لاسطبلات الاجهزة السرية لدول الجوار، ومع مثل هذا الانحطاط في الوعي والضمائر والعقول والهمم سنحصد قريباً ما ترسمه لنا مطابخ «الجيران المؤسسون»..!