ابتسام يوسف الطاهر*
في القطار تملكني احساس بالخوف والقلق كما لو أن القطار ماهو إلا فخ لاصطياد أبرياء يختطفهم وحش حاقد أو حشود دود هتشكوكية مرعبة. فمنذ الصفحات الأولى لرواية «عين الدود» فُتحت أعين الجراح لتصعد وتيرة الألم.. فُتحت أعين الخيال الذي نعيشه ونحن نتابع الأخبار ونحصي أعداد القتلى وضحايا الارهاب. لنرى بالعين والقلب والروح كيف اُختطف هؤلاء وكيف قُتلوا وكيف انتظروا لحظة انفصالهم عن الحياة. لحظة انتزاعهم من رحم أو أحضان أمهاتهم من ذلك الدفء ليلقوا بهم في وحل جب الحقد الأعمى البارد الموحش. «قبل صيحة الله أكبر وتدحرج الرأس الأول على الأرض نشف دمي وتبخر..لم تبق لي ولا قطرة واحدة أتباهى بها أمام نفسي بأني لست ميتاً..دخلت حالة تشبه الإغماء»ص7.
منذ الصفحات الأولى تبدأ رحلتنا مع مشاهد لم تفلح هوليوود بخدعها السينمائية وهي تصور انتصاراتها على الشعوب، ولا الخطب والشعارات الفقاعية تصور فوز البعث على أميركا، بأن ترسم بتلك الدقة والتجسيد؛ لأن الأخيرة اعتمدت الخيال المتكبر المخادع، لكن نصيف فلك بوصفه مصوراً محترفاً عاش الحدث ورآه كرسام موهوب متمكن من أدواته ينقل ما خلف الصور بالأبعاد الثلاثة أو الأربعة اذا أضفنا البعد النفسي. فقد جعلنا نغور عميقاً في نفوس تلك الأرواح المعذبة التي تبحث عن الأمل في الحياة وعن مطر يغسل أدراناً نشرها «القتلة الدودكية» بعد انتشار وباء الدود (الذي نخر أرواحهم وضمائرهم) في جميع أنحاء العالم»..
بلغته الفذة السلسة يقودنا لندخل دهاليز أرشيف الرعب الذي عاشه العراقيون في الشعبة الخامسة والسجن العسكري وسجن رقم واحد إلى سجن «أبو غريب». مصهر التفرقة الطائفية والعنصرية التي مزقت طيف العراق الشمسي وجعلت كل لون ينأى عن أخيه اللون «الدين قبل مجيء البعث كان ديناً فقيراً مسالماً أعزلَ بحيث لا نعرف من هو الصابئي ومن هو المسيحي أو السني والشيعي..كان ديناً نظيفاً بلا تكفير وتفسيق أو تخوين، حتى انفلق يوم الانقلاب الأبيض الذي سود أيامنا وصارت جميع أعيادنا أعياد غربان» ص281..
إلى جحيم معسكرات طهران حيث الوطن الممسوخ بالمنفى (كوجة مروي) حيث المسفرين أو المهجرين أو (التبعية) كما يسميهم صدام والبعثيون، الذين رموهم على الحدود الايرانية بحجة أنهم تبعية إيرانية، مع أن معظمهم أكراد فيليون جذورهم عميقة في أرض العراق، وجوههم تجعدت من شدة الادمان على حلم العودة الى العراق!..هناك حيث مصهر الإلحاد والكفر بالدين أو الارتماء بأحضان ما مُسخ من الدين! حتى تكشيرة المعدن الخسيس للبشر في «صيحة الله أكبر» ليذبحوا البشر بدم بارد خسيس!
بعيداً عن تبعية الإيديولوجيات والبيارق المتهرئة، والشعارات الإنشائية والتوريات البلاغية، تتقاذفنا فصول الرواية في بحر تتلاطم فيه أمواج الغضب والخوف والألم والأسئلة الموجعة، إلى حيث الأهوال الحقيقية التي تكبدتها مجموعات من البشر لا ذنب لها سوى انها لا تطيق رائحة البارود والرقص على ايقاع الأهازيج الخاوية. وشرائح أخرى لم تجد لها مكاناً على صهوة فزعة القادسيات الجديدة. بلغة شعرية ملونة تارة وتارة يملؤها الغضب. نصيف فلك استعمل لغة الغضب الساخر حيث بلاغة الوجع والوقوف بوجه كائنات الحقد. فتلك المشاهد المرعبة تعجز أمامها لغة المنطق فحل محلها غضب متراكم كحمم بركانية قمعناه كثيراً وصمتنا حتى زحف يصهرنا تحت لهيب جمره.
كما في مشهد سيرنا في دهليز اعترافات واحد من حملة الدود الذي اغتصبه أحد أزلام صدام ليجعله من جلاوزته المخلصين ويدربه على»الحفر في الجسد البشري لانتزاع الاعترافات من أصلب المعتقلين»..»استنكف من ممارسة أشهر أساليب التعذيب مثل الجلوس فوق قناني البيبسي التي راح الشعب يتدرب عليها؛ لأن المواطن على يقين من اعتقاله..وهكذا توسع (طيز) الشعب»!..»فمن لا يتعذب غريب عن الشعب» (لا هو منا ولا له مسكن ويا أهلنا) ص166-167.
الرواية ليست سفراً وتوثيقاً محايداً لمحنة وطن وعذاب شعب لا ذنب له غير انه أحب الحياة وأحب المطر وفي لحظات الحزن ينطلق صوته مغنياً ألمه. بل هي بحث في نفوس الجلادين أيضاً وأرشفة موتهم الروحي قبل الجسد «كنت أحمق..آه.. ما كنت أعرف أن الميت لا يموت» وهي قبل كل شيء رحلة في دهاليز أرواح الضحايا المعذبة.
بالرغم من حالة الرعب والغضب التي رافقتني مع صفحات الرواية، لكني صرت أستعجل القراءة مثل بطلها ثامر وهو يحث الصحفي على اتمام الرواية التي «ستكشف الوجوه الملثمة التي تعتاش على نزيف الدم..التي تمارس القتل بخشوع ..كأن الحب الإلهي لا يتم إلا بالدم»..»يمعود خاف نموت بعبوة ناسفة لو بسيارة مفخخة وما نشوف الكتاب». فالرواية تدين الجميع بلا استثناء الضحية والجلاد. ادانة للصمت الذي جعل وباء دود البعث منتشراً وكالجراد يلتهم الأرواح والفرح والأمل بالحياة. تدين صمت العالم ومنظماته الانسانية إزاء صراخنا في أقبية السجون السرية والعلنية. «لاندري في أي ماخور كانت منظمة حقوق الانسان تغط في نوم الجريمة، تغط في سبات أطول من نوم أهل الكهف وتشخر من تكدس دولارات صدام التي تعقد الألسن وتخدر الضمائر!!!؟ فأي مجنون يصدق ان أعمى حكم عليه بالسجن المؤبد؛ لأنه عزف أغنية (دنك ياحلو لايلوحك القناص)؟..وراعي الغنم لعيبي اتهموه بالتجسس؛ لأن خروفين اجتازا الحدود الايرانية. فلحق بهما لعيبي وأعادهما للقطيع فحكموا عليه بالمؤبد.. والذي يجعل المصلين في السجن ينفجرون ضحكاً وهو يقرأ سورة الحمد «هدنا على السراط المستقيم!»ص264.
هي ادانة لصمت المتعبين حتى الضحايا منهم «الجميع مشترك بالجريمة حتى الذي لم يقتل نملة. حتى المنزوي في عزلة صمدية.. كل من يقول يدي لم تتلوث بالدم. هو «كذاب ابن سطعش كذاب».. ألم تتلوث عيناه وأذناه وقلبه.. حتى الضحايا مشتركون بالجريمة.. الضحايا المذبوحون في بغداد وفي مثلث الموت في شارع الدم ومحلة العبوات.. ضحايا الاغتيالات والهاونات.. كل هؤلاء صامتون والدم من حولهم يستفزهم أن يشيروا للقاتل وأن يعلنوا اسم المجرم.. لكنهم ظلوا صامتين فكان السكوت مشاركة بالجريمة.. جريمتنا اشترك بها الأحياء والأموات منذ السقيفة الى آخر جيفة..الأطفال وحدهم الأبرياء» ص208.
بل إن بطل الرواية بإدانته لنفسه كما لو هو يديننا جميعاً يدين صمتنا وبرودة دموعنا لمشاهد القتل وسماع الأخبار التي تتسابق على نقلها الفضائيات والصحف التي وجدت بـ»الدودكية» ضالتها من صدام وعصابته إلى جنود أسامة ومجرمي الاحتلال والإرهاب الإسلامي». شعارات تخجل منها الحية والعقرب و»كراص الخصاوي».. لغتها نتنة صارخة التناقض الشاذ.. كيف يجتمع السلام (رمز الله) مع البارود والنار.. كيف يتعانق السلام مع صدام وعلي كيمياوي.. لم ينقص الشعارات سوى القول: السيارة المفخخة عليها السلام. الهاون رضي الله عنه. ورصاصة القناصين أم المؤمنين»!208.
«عين الدود» عدّها النقاد والمعنيون بالثقافة والأدب:»صرخة مترعة بالوثائق والأحداث عن الأهوال التي هطلت على سكان هذا الوطن المنكوب. تسللت إلينا برغم أنف غابات القضبان المتشابكة في هذا الشرق المنحوس».
والكاتب مصدق يوسف عدّها «ملحمة من الوجع لا يحتملها إلا عراقي عاش وسمع ورأى.
وأنا أتصفح الأوراق الأولى من رواية عين الدود مرت على ذاكرتي كتب قرأناها بأزمان مختلفة (الساعة الخامسة والعشرون ،1984 والأقدام العارية) أعمال وثائقية وأدبية تهز الوجدان وكل خلايا النفس البشرية».