جمال جصاني*
قبل أكثر من ثمانين عاماً تعرّف سكان هذا الوطن القديم على آخر ما توصلت له الامم الحرة من تقنية وآليات لادارة الدول الحديثة، حيث شاركوا في التجارب الاولى للديمقراطية الفتية، ومنذ البدء أدرك الجيل الاول من الوطنيين، وعلى رأسهم القائد الوطني البارز جعفر أبو التمن، المغزى الاساس للمنظومة الوافدة وركنها المكين؛ أي الأحزاب السياسية، لذلك أصرت القوى الوطنية على توفير شروطها ومستلزماتها عبر رفع شعار (لا انتخابات بلا أحزاب)، وقد رافق ذلك الوعي المبكر نشاط مفعم بالشجاعة والمسؤولية في توفير المناخات والتشريعات المطلوبة لمثل هذه التحولات النوعية. وعلى الرغم من الامكانات المحدودة والبدائية في النصف الاول من القرن المنصرم، امتلك اسلافنا ارادة ووعياً بأهمية وجود قانون ينظم عمل الأحزاب والمنظمات السياسية، قانون يؤسس للهوية الوطنية ويرسخ قيم الحداثة والتقدم. ولا يحتاج المرء الى جهد كبير كي يكتشف البون الشاسع بين ما كان عليه الحال آنذاك وما آل اليه بعد سلسلة التجارب الخائبة التي عشناها في العقود الخمسة الأخيرة، خاصة بعد انقراض الأحزاب وكل أشكال الحرية والتعددية زمن حكم آخر القوارض الذي انتشلته احدى كتائب الاستطلاع العابرة للمحيطات من جحره الأخير.
بعد «التغيير» استقبلت (صناديق الاقتراع) وملحقاتها من عبوات بنفسجية ومفوضية «مستقلة» للانتخابات، بحفاوة وحماسة لا مثيل لها من قبل غالبية العراقيين، ومع تواصل المواسم الانتخابية بشتى اشكالها وادوارها المحلية والاتحادية والمهنية تراجعت تلك الحماسة، لتحل مكانها مشاعر الخيبة واليأس، بعد أن قذفتهم أجواف الصناديق بأسوأ ما يمكن أن يحلموا به من ممثلين في المجالس التشريعية ومن ثم التنفيذية وبقية السلطات والادارات والهيئات، والتي رسمت ملامحها النهائية ريشة المحاصصة وشراهة الكتل الكبيرة، حيث اشتركوا جميعاً في جبهة موحدة ومتراصة لخوض الانتخابات بعيداً عن تطفل وفضولية قانون الأحزاب..! لذلك وحفاظاً على ما تبقى لنا من آمال، وكي نقلل من اثر صدمة النتائج المتوقعة، يتطلب منا تقليص حجم توقعاتنا عن الموسم الحالي لتفقيس الصناديق، حيث لا أحزاب سياسية بالمعنى الحديث لهذه المفردة، ولا قانون يجيزها وينظم عملها ويراقب سلوكها واجنداتها وتمويلها و.. ستعود الكتل والتيارات المحظوظة لتعزز مواقعها في المفاصل الدسمة للدولة والمجتمع مع شيئ من الاكسسوارات والمساحيق التي تتطلبها حقبة الديمقراطية التنكرية..!