جمال جصاني*
لأسباب شتى لا جدوى من التطرق اليها مرة اخرى، تعرضنا نحن سكان هذه المستوطنة القديمة لهزائم وكوارث على شتى الصعد، الفردية منها والاجتماعية. وغالباً ما تتم الاشارة الى المجالات المادية والاضرار الفادحة التي لحقت بها جراء سلسلة المغامرات والفزعات والحروب، من دون الالتفات الى العطب الجلل الذي تعرضت له المنظومة الأشد فتكاً (القيمية والأخلاقية). في الشارع، وكجزء من ترنيمة يرددها السواد الأعظم من شتى الرطانات والأزياء والمستويات الثقافية والعمرية والاجتماعية، صارت عبارة (متصيرنه جاره) أقرب الى النشيد الوطني منه الى فولكلور الشكوى والتذمر الذي يميزنا عن بقية سلالات بني آدم. ومع العجز والفشل، الذي ما زال مصراً على مرافقتنا في تجربة ما بعد «التغيير»، صار لزاماً علينا الاقرار اولاً وقبل كل شيء، بطبيعة الفساد المستحكم والخلل القيمي الهائل، والذي تحول من شدة سطوته وتغلغله الى شتى مفاصل حياتنا اليومية؛ الى غول يكبح أية محاولة لاسترداد شيئ من المعايير القيمية التي شحبت في العقود الأخيرة.
شراهة لا مثيل لها افترست بقايا المخلوقات التي خلفتها الحقبة المقبورة. وبالرغم من التطور المادي الذي رفع من مستويات الحياة والدخل للفرد العراقي في السنوات العشر الأخيرة، الا ان ذلك لم يحد من حمى ذلك السباق الجمعي والفردي لالتهام المزيد من وليمة (الوطن-الغنيمة)، حيث انتجت حقول التخصيب لهذه الشراهة المستشرية وفضلات الثقافة الاستهلاكية للعصر الجديد؛ أجيال جديدة من المخلوقات تنكمش أمام مواهبها سلالات القطط السمان. لم يعد هناك مكان لمفردات (الحياء والخجل) بعد ذلك الشوط الطويل من الخنوع والاذلال والمسخ، غول الشراهة بسط هيمنته، لا في ما يتعلق بالحياة الدنيا بشتى تجلياتها وحاجاتها الادارية والمعيشية والصحية والامنية وحسب، بل ترافق رحلتنا الى العالم الآخر، حيث يتطلب من الراحل وأقربائه واصدقائه تسديد الفواتير الأخيرة لضريبة العيش زمن اليباب القيمي الحالي.
هذا التصدع الهائل الذي لحق بالمنظومة القيمية والمعرفية والاخلاقية، يحتاج الى تدخل اممي يماثل ما جرى في اوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انطلقت ورش عمل واعادة بناء ذلك الحطام الهائل الذي خلفته الحرب عبر ما عرف بمشروع مارشال. والعراق باحتياطاته الكبيرة من الرزق الريعي وإرثه الثقافي والكنوز التأريخية والسياحية والدينية والامكانات والثروات الاقتصادية المتنوعة، لا يحتاج لغير انطلاق مشروع مارشال يتصدى لترميم وإعادة بناء المنظومة القيمية المتوازنة القادرة على لجم وباء الشراهة وانعدام الضمير..