علاء زريفة
شهدت السّنوات الأخيرة تطوّرًا كبيرًا في مجالات الذّكاء الاصطناعي، الأمر الذي جعلها تؤثّر بشكل متزايد على مجموعة واسعة من المهن، بما في ذلك الأدب. ومع بروز تقنيات تعلّم الآلة ومعالجة اللّغة الطّبيعية، أصبح للذّكاء الاصطناعي دور واضح في التّأثير على عملية الكتابة والإبداع الأدبي.
أحد أكثر الجوانب المدهشة لتأثير الذّكاء الاصطناعي على الأدب هو قدرته على توليد نصوص أدبية. بفضل تقنيات مثل GPT (التي تطوّرت منها أدوات مثل ChatGPT)، يمكن للذّكاء الاصطناعي إنشاء نصوص قصيرة، قصائد، وحتّى مقاطع روايات بناءً على مجموعة من المعطيات الأوّلية. ولكن، هل يمكن اعتبار هذه النّصوص إبداعًا حقيقيًّا؟
“مجرّد تقليد للأنماط“…
تقول فيكتوريا غريفيث، أستاذة الأدب المقارن في جامعة كامبريدج: “إن الذّكاء الاصطناعي يفتح آفاقًا جديدة للإبداع، لكنّه يبقى مجرّد أداة. الإبداع الحقيقي يأتي من البشر، الذين يمنحون الكلمات معنى وروحًا تتجاوز التّركيبات اللّغوية الصّارمة”. وتضيف: “حتّى الآن، ما يفعله الذّكاء الاصطناعي هو تقليد الأنماط، وليس خلق أفكار جديدة”.
بالتّالي، فإنّ الذّكاء الاصطناعي لا يمكنه “استبدال الكتّاب”، إلّا أنّه يمكن أن يكون أداة قويّة في تحسين العملية الإبداعية. يُستخدم الذّكاء الاصطناعي الآن في مراحل الكتابة المختلفة، بدءًا من التّخطيط إلى تحرير النّصوص، وحتّى تحليل ردود فعل الجمهور. يمكن لهذه الأدوات مساعدة الكتّاب في تحسين أسلوبهم، وتجنّب الأخطاء الشّائعة، وحتّى اقتراح أفكار جديدة.
يوضّح أندرو مكفارلين، وهو كاتب وأستاذ بجامعة لندن: “إن أدوات مثل Grammarly وProWritingAid تعتمد على الذّكاء الاصطناعي لتقديم مقترحات حول تحسين النّصوص. بالنّسبة للكتّاب المبتدئين، يمكن أن يكون هذا مفيدًا جدًّا في تقوية مهاراتهم اللّغوية”. ويضيف: “الذّكاء الاصطناعي لا يحلّ محلّ الإبداع، لكنّه يسهّل على الكتّاب التّركيز على الأفكار والقصص، بدلًا من الانشغال بالتّفاصيل اللّغوية”.
التّأثير على مهنة الأدب وأخلاقيّاتها
مع تطوّر هذه التّقنيات، برزت بعض المخاوف حول مستقبل مهنة الأدب. فهل سيؤدّي الذّكاء الاصطناعي إلى تراجع الحاجة إلى الكتّاب، أم سيصبح مساعدًا لهم؟ يرى العديد من النّقّاد أنّ الأدب سيظلّ دومًا في حاجة إلى “لمسة إنسانية”، وهي تلك القدرة الفريدة على التّعبير عن المشاعر والتّجارب الإنسانية المعقّدة.
جيمس تيلور، ناقد أدبي بارز، يقول: “الذّكاء الاصطناعي يمكنه إنشاء نصوص، لكنّ الأدب أكثر من مجرّد نصّ. الأدب يتعلّق بالتّفاعل بين الكاتب والقارئ، وبين الأفكار والعواطف. حتّى الآن، الذّكاء الاصطناعي لا يستطيع تجاوز الحدود الميكانيكية التي تجعل الكتابة الأدبية فنًّا”.
إلى جانب الفوائد العملية التي يقدّمها الذّكاء الاصطناعي في الأدب، هناك تحدّيات أخلاقية تنشأ من استخدامه. مثلًا، يمكن للذّكاء الاصطناعي أن يسهّل عملية التّزوير أو السّرقة الأدبية من خلال إنشاء نصوص متشابهة جدًّا لنصوص موجودة. أيضًا، يمكن أن يثير الذّكاء الاصطناعي تساؤلات حول حقوق الملكية الفكرية، خاصّة إذا كانت النّصوص المنتجة تعتمد على بيانات تمّ تغذيتها من كتب ونصوص أدبية قديمة.
جوليا ويليامز، محامية مختصّة في حقوق الملكية الفكرية، تقول: “مع تزايد استخدام الذّكاء الاصطناعي في الأدب، يجب وضع قوانين واضحة تحمي حقوق الكتّاب والفنّانين. النّصوص التي يولّدها الذّكاء الاصطناعي قد تبدو مبتكرة، لكنّها تعتمد في الغالب على موادّ موجودة مسبقًا. من المهمّ أن نعرف أين ينتهي دور الإبداع البشري ويبدأ دور الخوارزميّات”.
دور الذّكاء الاصطناعي في فهم الأدب
لا يقتصر دور الذّكاء الاصطناعي في الأدب على توليد النّصوص فحسب، بل يمكنه أيضًا تحليل النّصوص وفهمها بطرق قد تكون معقّدة بالنّسبة للبشر. هناك تقنيّات تعتمد على الذّكاء الاصطناعي لتحليل أعمال أدبية كلاسيكية وحديثة، لاكتشاف الأنماط اللّغوية والتّيمات الخفية. هذا يمكن أن يساعد النّقّاد والباحثين في فهم أعمق للأدب وتفسيره بطرق جديدة.
مثال على ذلك هو مشروع “Google Books Ngram Viewer”، الذي يعتمد على الذّكاء الاصطناعي لتحليل ملايين الكتب واكتشاف تطوّر استخدام الكلمات والمواضيع على مرّ الزّمن. تقول كاتي تايلور، الباحثة في الأدب الرّقمي، بهذا الشأن: “بفضل الذّكاء الاصطناعي، يمكننا الآن تحليل الأدب على نطاق لم يكن ممكنًا من قبل. يمكن أن يكشف هذا التّحليل عن علاقات غير متوقّعة بين الأعمال الأدبية، ويفتح آفاقًا جديدة في دراسة الأدب”.
تكامل أم تنافس؟
من بين أبرز التّطوّرات التي أحدثها الذّكاء الاصطناعي في مجال الأدب هو ظهور الأدب التّفاعلي، حيث يتفاعل القارئ مع النّص بشكل ديناميكي ويتغيّر بناءً على اختياراته. يعتمد هذا النّوع من الأدب على خوارزميّات الذّكاء الاصطناعي التي تسمح للنّص بالاستجابة لتفضيلات القارئ.
مارك جونز، مؤلّف روايات تفاعلية، يوضّح: “الأدب التّفاعلي يجمع بين فنّ السّرد وتكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي بطريقة تجعل التّجربة الأدبية شخصية لكلّ قارئ. لقد أصبح بإمكاننا خلق عوالم قصصية تتغيّر بناءً على قرارات القرّاء، ما يضفي على النّصوص نوعًا من الحياة والحركة”. ويرى جونز أنّ هذا النّوع من الأدب قد يكون المستقبل في مجال تفاعل القرّاء مع النّصوص الأدبية.
في النّهاية، يمكن القول إنّ الذّكاء الاصطناعي يؤثّر بشكل ملحوظ على مهنة الأدب. في الوقت الذي يمكن فيه للذّكاء الاصطناعي أن يسهّل عملية الكتابة ويحسّنها، يبقى العنصر البشري حاسمًا في الإبداع الأدبي. الأدب ليس مجرّد كلمات على صفحة، بل هو تعبير عن الرّوح الإنسانية، والذّكاء الاصطناعي لا يزال بعيدًا عن أن يكون قادرًا على تقليد هذا الجانب الفريد.
بينما قد تستمرّ الأدوات القائمة على الذّكاء الاصطناعي في التّطوّر وتحسين العملية الأدبية، ستظلّ مهنة الأدب دائمًا بحاجة إلى البشر الذين يستخدمون هذه الأدوات للتّعبير عن أنفسهم وعن العالم من حولهم. هذا التّفاعل بين الذّكاء الاصطناعي والإبداع البشري يمكن أن يؤدّي إلى مستقبل أدبي جديد، حيث تعمل التّكنولوجيا والفنّ معًا بدلًا من أن يتنافرا.
مراجع:
1- غريفيث، فيكتوريا. مقابلة مع مجلّة “الأدب والذّكاء الاصطناعي”، كامبريدج، 2023. 2- مكفارلين، أندرو. “الذّكاء الاصطناعي ومستقبل الكتابة: أدوات جديدة أم تهديد للإبداع؟” جامعة لندن، 2022.
3- تيلور، جيمس. “الأدب والذّكاء الاصطناعي: الحدود والتّحدّيات”، مجلّة الدّراسات الأدبية، 2021.
4- ويليامز، جوليا. “حقوق الملكية الفكرية في عصر الذّكاء الاصطناعي”، محاضرة في كلّية الحقوق، 2023.
5- تايلور، كاتي. “الأدب الرّقمي وتحليل النّصوص باستخدام الذّكاء الاصطناعي”، مجلّة الأدب الرّقمي، 2022.
6- جونز، مارك. “الأدب التّفاعلي: بين الفنّ والتّكنولوجيا”، مؤتمر الأدب الرّقمي، 2023.