محمد خلفوف
منذ مدة وأنا أسير لرغبة واحدة: الحصول على مرآة.
في الطريق إلى العمل أمر بمحل لبيع الأثاث، فأقف أمام مرآة طويلة ذات إطار أسود. أنظر إلى نفسي لبضع ثوانٍ ثم أنصرف. وكذلك أفعل في طريق العودة. مع الوقت تحول التوقف أمام المرآة والنظر إليها عادة.
هكذا تولدت لديّ رغبة شديدة في الحصول على مرآة.
لطالما أحببت المرايا والنظر إليها. ليس فقط المرايا، بل أي شيء له انعكاس: كوب، ملعقة، إبريق، زجاج نافذة، واجهة محل… لكن المرايا كان لانعكاسها سحر خاص، يجعلني أنظر إليها مطولا، حتى دون ضرورة داعية لذلك. متأملا ملامحي العادية تماما، لوقت طويل جدا… حتى أنني كنت أجد مشاكل مع الحلاقين عندما ينتبهون إليّ وأنا أنظر إلى مراياهم أثناء الحلاقة.
والدتي كانت تعاتبني كثيرا وأنا طفل على التحديق الطويل في المرايا، خصوصا مرآة دولابها، حيث كنت أتسلل إلى الغرفة وأجلس على حافة السرير: وأستغرق في التأمل. في إحدى المرات نزفت دما من أنفي. أمي أخبرتني أن شبح المرايا كان على وشك التهام روحي وأخذها معه إلى العالم الخفي من المرآة. بعد هذه الحادثة عشت حياتي بين خوف من المرايا، وانجذاب غريب نحوها.
كنت بلا والدين أو إخوة أو أصدقاء أو امرأة… أعيش حياة وحيدة. لا شيء فيها يحسسني بالانتماء. كنت شخصا لامرئيا . وحدها المرايا كانت تمنحني الإحساس بأن لديّ وجود في هذا العالم، حتى وإن كان مجرد انعكاس عابر على قطعة زجاجية.
أكره النظر إلى مرآة الحمام الصغيرة ذات الإطار الأبيض المصفر. أمامها أغسل وجهي، وأفرش أسناني، وأحلق ذقني، وأراقب مظهري قبل مغادرة المنزل. كانت تُظهر فقط جزئي العلوي. كأنني رأس وعنق فقط، أما الأجزاء الأحرى من الجسد فكأنها غير موجودة. لذلك كنت في حاجة شديدة إلى مرآة تُظهرني بشكل كامل لا جزئي. وكانت تلك المرآة الأنسب لذلك.
كل يوم أمر أمام المحل، صباحا ومساء، كل شهر، طوال فصول السنة… أقف وأنظر إلى المرآة. أحيانا كنت أبتسم لنفسي، وأحيانا أكتم تلك الابتسامة… “هذا السروال لا يتناسب مع القميص”، “لم أحلق ذقني كما يجب اليوم” أقول لنفسي وأنا أقف أمام المرآة. حتى عندما يمر المارة من ورائي فإنني لا أرى انعكاسهم، كان كل شيء يختفي من حولي فجأة: الناس، نفير السيارات، ضجيج الشارع، السماء، ثقل أكياس التبضع في يدي… عندها تعتريني تعاسة مفاجئة، كأنني أقف أمام قوة غامضة تجعلني أرى العالم… إحساس مرير بالذات أشعر كأن كائنا آخر ـ شبح المرآة كما تلقبه أمي ـ يضع يده الثقيلة على كتفي، كأنه يريد أخذني معه إلى عالم المرايا. أنتفض فجأة، فيعود إحساسي بالعالم من حولي.
مثلما يحدث مع الحلاقين: أدرك تماما غيظ البائع كلما مررت من أمام المحل وتوقفت أمام مرآته.
رغم شغفي بالمرايا، لم أحلم يوما بمرآة… حلمت بكل شيء تقريبا، لكنني لم أر يوما مرآة في أحلامي. لكنني في إحدى الليالي حلمتُ بها: المرآة، مرآة محل الأثاث، تقف في ممر طويل ومعتم، وأنا أحاول الذهاب إليها لأرى انعكاسي عليها، لكنها كانت تبتعد أكثر فأكثر… وفي نهاية الحلم سطع نور قوي كسر المرآة إلى قطع وشظايا.
ظل الحلم يرن في رأسي ليومين، حتى تشجعت وذهبت لشرائها. دخلت المحل الذي بدا أكثر أناقة من الداخل. انتبه البائع وقال:
ـ مرحبا يا سيدي! ماذا تريد؟ أريكة، دولاب، وسائد…
ـ أريد تلك المرأة التي أمام المحل.
اشتريت المرآة. وأنا في الطريق إلى المنزل كنت سعيدا. لم يحدث أن كنت سعيدا بشراء شيء مثل هذه اللحظة.
في المنزل وجدت نفسي حائرا في مكان وضع المرآة: في الصالون أم في غرفة النوم؟ لكنني انتهيت إلى وضعها في غرفة نومي. هكذا ستكون أقرب إليّ، وأكون أقرب إليها.. سأتمكن من رؤية نفسي بشكل كامل الآن، حتى وإن كنت عاريا، حتى وإن كنت وحيدا… حملت المرآة ـ التي لم أعتقد أنها ثقيلة هكذا ـ إلى غرفة نومي..
أزحت قليلا منضدة الزينة. وضعت المرآة، بين الباب والمنضدة، وتأهبت للنظر إلى المرآة كما أفعل أمام المحل… وقفت أمامها تماما.. لكنني لم أر انعكاسي في المرآة.