القسم الأول / دراسة الحروفيّة العرفانيّة في شعر أديب كمال الدين

أ.د. سعاد بسناسي

تعدُّ علاقة الشّعر العربيّ الحديث بالتّصوّف علاقةً قويّةً بوصفهما يعبّران عن التّجارب الرّوحيّة والمشاعر الصّادقة التي يعيشها كلّ من الشّعراء والمتصوّفة في سعيهم للوصول إلى الحقيقة الإلهيّة والتّوحّد مع الله. من هذا المنظور يعتبر التّصوّف طريقاً روحيّاً يسعى فيه الصّوفيّون إلى التّحرّر من المادّيات والانغماس في الحبّ الإلهيّ والتّجارب الرّوحيّة العميقة. من خلال ما يتضمّنه التّفكير العميق في الطّبيعة الإلهيّة والتّأمّل في الكون والنّفس؛ لذلك يميل الشّعراء الصّوفيّون إلى استخدام الرّموز والإشارات للتّعبير عن معانيهم الرّوحيّة، مثل استخدام الخمر كرمز للحبّ الإلهيّ. وغالباً ما يكون الشّعر الصّوفيّ غامضاً ويتطلّب من القارئ التّفكير العميق لفهم معانيه الخفيّة، كما تتميّز اللّغة المستخدمة في الشّعر الصّوفيّ بالعاطفية والقوّة التّعبيريّة لنقل الأحاسيس الرّوحيّة.

سعيًا إلى أن تكون قصائد الشّاعر معبّرة عن الشّوق إلى الاتّحاد مع الله والشّعور بالفناء في الحبّ الإلهيّ.

غالبًا ما يستخدم الشّعر الصّوفيّ الحروف بشكل رمزيّ للدّلالة على معانٍ عميقة وغاية في الرّوحيّة؛ إذ يعتبر استخدام الحروف جزءاً من التّرميز الصّوفيّ الذي يعتمد على الغموض والتّأمّل لتحقيق تجربة روحيّة وجماليّة، كأن يستخدم الحرف “ألف” الذي يرمز إلى الوحدة والبدء، ويعتبر رمزاً لله في بعض الأحيان، لأنّه يشير إلى البداية التي لا بداية لها، في حين يرمز الحرف “باء” إلى البقاء والوجود المستمرّ، وهكذا مع بقيّة الحروف كما سيتّضح في حينه مع الشّاعر أديب كمال الدّين الذي يستغلّ الرّمزيّة والغموض لفتح أبواب التّأمّل الرّوحيّ، ممّا يسمح للقارئ أو المستمع بالوصول إلى مستويات أعمق من الفهم والتّجربة الرّوحيّة.

ويعدّ الشّاعر العراقيّ أديب كمال الدّين واحدًا من أبرز الشّعراء العرب المعاصرين الذين وظّفوا رمز الحروف في شعرهم الصّوفيّ. يُعرف أديب كمال الدّين بإبداعه في استخدام الحروف العربيّة كرموز تحمل معاني روحيّة وفلسفيّة عميقة. ومن خلال استخدامه لهذه الرّموز، يسعى إلى التّعبير عن تجاربه الرّوحيّة والتّأمّلات الفلسفيّة. بالإضافة إلى أنّه يستخدم الحروف كرموز تعبّر عن معانٍ روحانيّة وفلسفيّة. فكلّ حرف لديه قيمة ومعنى يرتبط بتجارب الشّاعر الرّوحيّة وتأمّلاته.

وفي قصائد أديب كمال الدّين، نجد أنّ الحروف ليست مجرّد وحدات لغويّة بل هي رموز تعبّر عن التّجربة الصّوفيّة بكلّ تعقيداتها وأبعادها. يستخدم الشّاعر الحروف لإيصال إحساسه بالفناء في الحبّ الإلهيّ والسّعي نحو الاتّحاد مع الذّات الإلهيّة، ممّا يفتح المجال للتّأمّل والتّفسير الشّخصيّ، المفعم بالعمق الفلسفيّ والرّوحيّ، حيث يعبّر عن تجاربه وتأمّلاته بشكل معقّد ومليء بالدّلالات على الرّغم من أنّ الشّاعر يكرّر استخدام الحروف في سياقات مختلفة لتعزيز المعاني الرّوحيّة والفلسفيّة.

لقد أسهم أديب كمال الدّين بشكل كبير في إثراء الشّعر الصّوفيّ المعاصر من خلال إبداعه في استخدام الحروف كرموز روحيّة، وكان أسلوبه الفريد يمزج بين الشّعر والرّوحانيّة والفلسفة، ممّا يجعل من شعره مادّة غنيّة للتّأمّل والبحث عن المعاني العميقة.

بهذا الأسلوب، يساهم أديب كمال الدّين في تجديد الشّعر الصّوفيّ ويعطيه أبعاداً جديدة من خلال استخدام الحروف كوسيلة للتّعبير عن التّجربة الرّوحيّة.

من الحرف إلى الإشارة

للحرف عند الشّعراء الذين يميلون إلى التّصوّف دلالات روحيّة وفلسفيّة عميقة؛ إذ الحروف ليست مجرّد أدوات لغويّة تستخدم لتشكيل الكلمات والعبارات، بل تعتبر رموزاً تحمل معاني خفيّة تتجاوز المعاني الظّاهريّة. استخدام الحروف في الكتابات الصّوفيّة يعكس فلسفة عميقة تتعلّق بالعلاقة بين اللّغة والوجود، وبين اللّفظ والمعنى، وبين المخلوق والخالق.

والحرف في شعر أديب كمال الدّين يمثّل البداية التي من خلالها يتمّ الكشف عن الحقائق الإلهيّة، فهو عندما يستخدم الحرف فإنّه يستخدمه بوصفه أداة للتّأمّل العميق في الكون وفي الذّات؛ لذا فإنّ كلّ حرف يحمل طاقة ومعنى خاصّين، ومن خلال التّأمّل في هذه الحروف، يمكن للصّوفيّ أن يكتشف أسراراً روحيّة ويقترب من الحقيقة الإلهيّة، فضلاً عن أنّ الحرف عنده يعدّ رمزاً لوجود الله في كلّ شيء. فمثلاً، كلّ كلمة تبدأ بحرف معيّن، وهذا الحرف يمكن أن يحمل في طيّاته دلالة على وجود الله في هذه الكلمة وفي معناها، لذلك قال الشّاعر:

لكلِّ مَن لا يفهمُ في الحرفِ أقول:

 النّونُ شيءٌ عظيم

 والنّونُ شيءٌ صعبُ المنال.

 إنّه مِن بقايا حبيبتي الإمبراطورة

 ومِن بقايا ذاكرتي التي نسيتُها ذات مرّة

 في حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة

 ومقلوبٍ، حقّاً، عن لبّ الحقيقة.

 وهكذا اتّضحَ لكم كلُّ شيء

 فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمةٍ

 عن معنى النّون.[1]

 

ومن ثمّة فإنّ الحروف عند الشّاعر أديب كمال الدّين هي بمثالة رموز روحيّة تحمل معاني عميقة ودلالات فلسفيّة، الأمر الذي من شأنه أن يعكس الفهم العميق للّغة كوسيلة للتّواصل مع الإله والتّأمّل في الوجود. وفي ضوء ذلك تعتبر الحروف مفاتيح لفهم أسرار الكون والاقتراب من الحقيقة الإلهيّة، ممّا يجعلها جزءاً أساسيّاً من التّجربة الصّوفيّة.

وعلى ضوء ما تقدّم ليست الحروف في شعر أديب كمال الدّين مجرّد وحدات لغويّة بل تحمل دلالات عميقة وإشارات رمزيّة، ترتبط بالتّجارب الرّوحيّة والفلسفيّة للشّاعر بقدر ما يستخدم الحرف كأداة للتّعبير عن مشاعره الرّوحيّة، ورؤاه الدّاخليّة بطريقة تعكس عمق تجربتهم في الكشف الرّوحيّ حيث تتّسع رؤية الصّوفيّ من خلال تأويله الشّموليّ للأشياء التي ترتفع في نظره من الاعتقاد الى التّجربة الرّوحيّة بفنائه عن نفسه وعن الخلق، فيتّحد بالمحبّة الإلهيّة، وكأنّ هذه المحبّة هي خلاصه الوحيد وطريقه الأمثل للمعرفة اليقينيّة التي يستمدّها الصّوفيّ من تفسيراته، وعباراته في التّوحيد من خلال وحدة الشّهود/ الوجود[2] ؛ لأنّ هاتين الوحدتين تقومان على المحبّة الإلهيّة بوصفها أحد أهمّ المواضيع التي تتناولها الشّعراء الصّوفيّون، وتوظيف الحروف في شعر أديب كمال الدّين يعدّ وسيلة فعّالة للتّعبير عن هذه المحبّة بطرق عميقة ورمزيّة؛ إذ الحروف في شعره ليست مجرّد عناصر لغويّة، بل رموز تحمل معاني روحيّة، وهي تعكس العلاقة الحميمة بين العبد والله.

وفي هذا ما يشير إلى أنّ العلاقة بين الحرف ومدلوله الإشاريّ، والممارسة الذّوقيّة عند الشّاعر، هي بمثابة طابع حدسيّ، هذا الطّابع الذي يعدّ الحامل الذي لا محمول له سوى القيمة… وهذا يعني أنّه علو لا يعلى عليه إلاّ بإيجابه الخاصّ؛ أي إلاّ بتجاوزه لذاته باتّجاه ذروة كماله، أو صوب روحانيته البحتة، التي هي علوّ فوق المادّة، وثقلها، وجلافتها، وعجمتها، وافتقارها إلى أيّ تسويغ ممكن”[3].

وفي ضوء ذلك، يعتبر الحرف في شعر أديب كمال الدّين وسيلة للتّعبير عن الشّوق والحبّ لله. من خلال تكرار حروف معيّنة، أو استخدام حروف خاصّة في تراكيب معيّنة، يعبّر الشّاعر عن رغبته في الاتّحاد مع الله، كونه يعبّر عن طوية أسرار الغيوب، ومفاتح اختلاف أنواعها؛ كما في قوله:

أوقَفَني في موقفِ الألِف

وقال: الألِفُ حبيبي.

إنْ تقدّمتَ حرفاً،

وأنتَ حرفٌ،

تقدّمتُ منكَ أبجديةً

وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.

وقال: سَيُسمّونكَ “الحُروفيّ”.[4]

هناك تأمّل في النّص، وإعمال في النّظر، أراد الشّاعر أن يساعد المتلقي على التّعمق في معاني الحبّ الإلهيّ؛ إذ كلّ حرف في هذا المقطع الشّعريّ يمكن أن يكون باباً لمدلول روحيّ عميق، يساعد في الوصول إلى مستويات أعمق من الفهم الرّوحيّ، والمحبّة الإلهيّة، ومن ثمّ، فإنّ توظيف الحروف في شعر أديب كمال الدّين يعزّز من قدرة الشّاعر على صنع  رؤاه الكشفيّة على وفق دلالات الحرف في مضامينه الصّوفيّة، التي تشير إلى التّعبير عن المحبّة الإلهيّة بطرق رمزيّة وروحيّة؛ لأنّ الحروف ليست مجرّد رموز لغويّة، بل تحمل معاني عميقة تتعلّق بالحبّ الإلهيّ والشّوق والاتّحاد مع الله. من خلال التّأمّل في هذه الحروف، يمكن للشّاعر والمتلقّي الوصول إلى مستويات أعمق من الفهم والتّجربة الرّوحيّة، كما في قوله:

سأكون قريباً من إيقاعكَ يا فجراً

يُحْملُ فوقَ الرّمح

سأكونُ الرّاء، أنا الرّاء

منذ طفولة أمطار المعنى في قلبي.

وأكونُ الألِف، أنا الألِف

منذ شروق الشّمس إلى غيبوبتها المرّةِ وسط الأمطار.

سأكونُ السّين، أنا السّين

[1] – أديب كمال الدّين: نون، ص4 – مطبعة الجاحظ – بغداد 1993.

 

– [2]  ينظر، أحمد عبد المهيمن: نظريّة المعرفة بين ابن رشد وابن عربيّ، دار الوفاء 2000، ص114.

[3] – يوسف سامي اليوسف: القيمة والمعيارـ مساهمة في نظريّة الشّعرـ دار كنعان، دمشق، ط 1، 2000، ص 12 وما بعدها.

[4] –  أديب كمال الدين: مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2012، ص 12.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة