يوسف عبود جويعد
امتلكت المجموعة القصصية (باتجاه الجنوب البعيد) للقاص نبيل جميل، ما يؤهلها بأن تكون واحدة من النصوص السردية التي تنتمي الى فن صناعة القصة، بمقوماتها الأساسية، وعناصرها وأدواتها التي تستخدم في عملية بنائها، إذ إن لهذا الجنس سمات وصفات تمنحه هويته، وأهمها عملية التكثيف التي هي أداة لا يمكن أن تمتلك القصة القصيرة أو القصيرة جداً بدونها مقومات البناء الفني المطلوب، وتأتي تباعاً الأدوات الأخرى المكملة، والمعروفة لدى كتاب القصة، وقد أُتيحت للقاص أرض خصبة طيبة معطاء منحته الحرية دون قيود للتحرك في فضاء هذه النصوص، وهو ينقل وقائع عاشها، أو جرت ضمن مسيرة حياته، أو كان جزءاً من أحداثها، وتلك الأرض الخصبة هي القاعدة الأساسية التي شكلت الحس القصصي لديه، ومنها استلهم جميع الأحداث التي ضمتها هذه المجموعة، كونه واحداً من أبناء مدينة البصرة، وعاش وترعرع في ربوعها، وهي البيئة والزمان والمكان الذي احتل مساحة واسعة من تلك النصوص السردية القصصية، ولم تكن هذه الحالة فرصة للقاص وحده لانتقاء نصوصه من تلك البيئة، بل إن للقارئ نصيباً أيضاً فسوف يطوف في هذه النصوص، في أزقة ومقاهي وشوارع وبساتين وبيوت وعادات وتقاليد وطقوس أهل البصرة، من خلال النصوص المتنوعة التي ضمتها المجموعة، وكان للحياة ومتقلباتها، مع الحقب الزمنية والاحداث السياسية والاقتصادية، والحروب التي مرت على البلاد، منذ حرب الثمان سنوات وحتى سنوات التغيير، التي تواترت بشكل متتابع ودون توقف، وبما أن البصرة هي البوابة الشرقية للبلد، فقد طغت هذه الاحداث على حياة أهلها شأنها شأن المدن الاخرى، ونتج عن كل هذا هاجس قلق يميل الى الحزن الممزوج بالكآبة والملل بسبب عدم استقرار البلد وسيادة الأمن فيه، وهذا الهاجس المركب، هو واحد من الادوات القصصية التي اجتاحت فضاء السرد القصصي في متون نصوص هذه المجموعة، حيث يتناول القاص نصوص عديدة يجتاح الموت مضمونها وشكلها، وللحرب وجهها المرعب نصيب ايضاً في هذه النصوص، وللعلاقة الاجتماعية والاسرية نصيب، ولتداعيات وهموم البطل نصيب، كما أود الإشارة الى التنوع الواضح فيها، وكذلك انتقال القاص من مكان الى آخر، ومن زمان الى آخر، ومن أحداث الى اخرى غير متشابهة أو مكررة، وحافظ القاص أيضاً على أهم العناصر التي يجب أن تتوفر في النص السردي، ألا وهي الإيقاع والانسيابية التي ترافق الاحداث لنهايتها.
في قصة (طيور الليالي العذبة) نعيش حالة من الصراع الذي يحدث لرجل شهد الحروب في البلد، وواجه الموت مع اقرانه، ورأى الأشلاء تطفو على سطوح المياه الآسنة، حيث يتذكر زمن الحرب وهو في مهمة تصليح انابيب النفط التي تسرب النفط منها وأحدثت بقعاً من الزيت اللزج الذي تقع في براثنه الطيور المهاجرة، وأحس إنقاذه لهذه الطيور هو شبيه بالجنود الذين واجهوا الحرب دون ارادة منهم، وعملية إنقاذ الطيور عملية إنسانية بحتة، وهكذا فقد توجه نحو بقعة الزيت وهو يحمل بيده عصاً وقميصاً ليبعد الطيور عنها لإنقاذها، الا أنه ينزلق من التلة الى ذلك الزيت اللزج فيعلق فيه:
(وأخذ يلوّح بعصاه ويهش الطيور الوافدة، وفي داخله شعور بالزهو لضمان سلامتها، يركض ويقفز ويصيح، لكن الخطر المتربص لا يمكن تفاديه دائماَ، فقد التوت ساقه وتدحرجت جهة البقعة، غطس الى منتصفه، حاول ان يتحرك جهة الساتر الترابي، لكن دون فائدة، فلزوجة السائل قيدت حركته، وبدأ جسمه يغطس ببطء، عاودته رؤية جثث الجنود، فبدت مثل أشباح تحوم، وآخر ما رأته عيناه مجموعة من الطيور كانت تحاول أن تتشبث بفروة رأسه قبل أن تنزلق على وجهه وتمتصها بقعة النفط.) ص13
وفي قصة (لقاء) ينقل لنا القاص أجواء حرب شعواء مرعبة ونيران لقصف كثيف يتساقط على البيوت من الاسلحة البريطانية، وسط هذا الجو المشحون بالخوف والرعب، ننتقل الى جلسة سمر بين صديقين داخل أحد البيوت، وهما يوصيان بعضهما وصية الموت، ويحدث ما لا يحمد عقباه:
(شعرت بالمنزل يرتج، تقدم عدة أمتار، ثم عاد ليستقر في مكانه القديم. كان يتذكر كل شيء وبالتفاصيل الدقيقة، حتى القطرات الحمراء التي دلته على بقعة الدم الكبيرة، حول رأس صديقه الحميم. كان يروي ذلك ودمعة صغيرة تتلألأ في زاوية عينه السليمة، حزناً على صديق العمر الذي قتلته شظية حادة، اخترقت جبهته في ثالث ليلة من ليالي الحرب الثالثة.)ص 78
وفي قصة (صمت العرسان) ننتقل الى أجواء رومانسية عاطفية حالمة، إذ يخرج الزوج من البيت الى عمله ويطلب من زوجته أن لا تتصل به لأنه سيتجول بحرية، ولكن الأمر ليس كذلك فهو يشعر بالندم والحزن لأن علاقة عاطفية مع حبيبته امتدت لخمس سنوات ولكنها لم تنته بالارتباط، وهو يتذكرها بشي من الحزن، حتى انه صار يدخن سيكارة تلو اخرى وحاد المزاج، وفجأة يسقط مغمياً عليه فينتقل الى المستشفى وهناك يرى حبيبته وهي تقول له (ألف سلامة حياتي).
(لم أخبر زوجتني بما حصل، وكما أوصيتها لم أجد في سجل هاتفي المحمول أيّ مكالمة فائتة أو رسالة قصيرة. أثناء تناول طعام العشاء انتظرت مني تفسيراً عن سبب الحزن الذي رافقني منذ الصباح، كانت نظراتها توحي بذلك، لكننني كنت فضلت الصمت، وطوال فترة المساء كنت صامتاً، وكذلك في الفراش، وبقيت صامتاً طوال حياتي معها.) ص 102
كما أن هذه المجموعة حفلت بالقصة القصيرة جداً، فقد قدم القاص قصصاً قصيرة جداً نختار منها قصة (وجوه)
(منذ يومين لم يرن هاتفي الجوّال ، وكذلك لم تصلني أية رسالة ، منذ يومين وأنا قلق بشأن عدم وجودي في الحياة) ص 149
وهكذا فقد اخترنا نماذج من القصص التي ضمتها المجموعة القصصية (باتجاه الجنوب البعيد) للقاص نبيل جميل وهي تضم العديد من النصوص القصصية المتنوعة القصيرة والقصيرة جداً، في سياق فني متناسق متناغم بإيقاع متزن وقدرة على احتواء الادوات والعناصر التي تتطلبها عملية البناء القصصي.