زهير الجبوري
استطاع الشاعر انمار مردان في تجربته الأخيرة (كلما قلت .. قالت الى أين ؟ /2021) أنْ يخلق لنفسه الحيز الكافي في الشعرية العراقية التي تلامس المجسات الكبيرة المؤطرة بالواقع وبالتفاصيل المحيطة به، ولأن القصيدة لعبة مجازية فيها متعة البناء والتشكّل ـ كما يعتقد الشاعر ـ فإن ما قرأناه في المجموعة هذه أنها خلقت أجواءً مشحونة بالوعي وبالنضج، فلم تكن القصيدة سوى مشروعا يحمل في طياته طرح الأسئلة، لكنها أسئلة بائنة وواضحة انطوت على تفاصيل مؤطرة بالذاتي والحسي والهاجسي، انطلاقا من العنوان مرورا بالمضمون وليس انتهاءً بالخاتمة. ولو قمنا بمواجهة الشاعر أمام قصائده ، فإننا سنلمس حرصا دقيقا في طريقة كتابة كل قصيدة، وبذلك يصبح الشاعر على علاقة صريحة مع واقعه الجديد، فالقصائد في المجموعة عبارة عن شفرات مدونة استنهضها (مردان) من تفاصيله الخاصة لتصبح مشروعه الشعري ، مهما كانت هناك امتزاجات وتكثيفات لغوية ، بل هناك ضربات شعرية اعطت قصدية واضحة في وحدة الموضوع ..
تتضح في قصائد المجموعة ثيمات لازمة عند الشاعر حيث (الأنا .. والذات .. والآخر) ، ومع حضورها الذي يبدو وقوعه في التكرار من خلال قصائده السابقة ، الا انها تحيلنا الى خانة (الانصات) ، وهي للوهلة الأولى تمثل حالة تلقي، غير أني احسبها نقديا حالة تحول ونضج ، حيث رشاقة اللّغة واستقرار الانفعال السابق في تجاربه السابقة ، وهي في الوقت ذاته لا تنفك في التفكير عن شيء يمتد الى مديات أخرى، أهو هاجس القلق في شبق التجديد والمغايرة .. أم حالة من التوجس الذاتي والنفسي الذي لازم الشاعر في مرحلته الأخيرة ..؟ .. واذا كان هناك أمر ثالث في قراءتنا لشعرية المجموعة فإنه يقف عند حدود ما يسمى بـ(السير ذاتي) ، وهي مسألة حساسة جدا ، لأمر يتعلق بخصوصية الشاعر في تحديد ما يكتب حاليا وكيفية التعامل مع اسقاطاته الخاصة مثلما قرأنا العتبات التالية لـ(الأهداء / الى (بلند) وهو يحمل أسمي ) ، و(عنوانات القصائد) و(المضمون وما يحمله من انعكاسات) ، كلّها تنبسط أمامنا وسط تحليل يمسك به أهل الاختصاص .. بمعنى لو قدر للشاعر أنمار مردان أن يعيش مرحلة جديدة وتفاصيل مغايرة ، فان القصيدة عنده ستأخذ شكلا بنائيا مختلفا ، ولا ضير في ذلك فبعد المجموعة الأولى والثانية وأخيرا الثالثة فقد لمسنا حقيقة التجديد والمغايرة ..
صحيح أن لعبة المفارقة في شعرية انمار مردان واضحة ، لكن قصائد (كلما قلت .. قالت الى أين) فيها استقرار وتأن واضح ، وهناك انغمار في صياغة الجملة الشعرية محاولة منه جعلها ذات متعة ، ومن غير أن يشعر بأنَّ القصيدة قادته الى كشوفات ذاتية وانحدارات مشحونة بعلامات استفهام لأسئلة فرضت عليه ، نقرأ في قصيدة (مصحة):
رغم قربي المتكرر من كلّ مجانين الأرض
لم يشر أحدهم إِليَّ .. ويقول إنه مثلي
فإلى متى أبقى أمارس جنوني بكِ
بهذا التفرد العجيب .(ص18).
وفي قصيدة (بورتريه) نقرأ:
أكسرُ كلّ الطلاسم المثقوبة في قبعتي وأسألهم
ما ذنب الشمس انها خلقت عارية ؟ (ص21).
وفي قصيدة (أوشك أن أقول لِمَ) ـ المقطع (6) ـ :
لِمَ لا أؤطر أنوثك .. وأمارس عزلتي فيها
ويكون هذا العالم
في جسدك رداءً خفيفاً .(ص26).
ومن خلال ما جاءت به المقاطع الشعرية من علامات استفهام، فإنها في الوقت ذاته احالتنا الى منطقة حساسة جدا ، وهي مزاجية الشاعر، فهو لا ينفك في التعامل مع اللغة الشعرية بوصفها أداة معبرة عن ذاته ، لا أداة كاشفة لذاته ، وهو تعالي فطري ، ولعل الخوض في تفاصيل أكثر تعقيدا وحساسية تلك التي يتعامل بها عن قرب مع (مجانين الكرة الأرضية) و (كسر الطلاسم المثقوبة) و (التأطر بأنوثة امرأة ، ثم العزلة)، يكشف عن وجود انعكاس متمرد في بنية القصيدة ..
في القصائد (لم أخطط لرسالتك .. وما ضاع ولم يقل .. وذاكرة للكسر .. وازرع نومي ليخضر حلم ابيض)، تستنهض في مضمون كل قصيدة شعلة من المدركات الحسية، رغم تلوينها وتنويعها بموضوعات مختلفة، فحين نقرأ في قصيدة (لم اخطط لرسالتك):
الشمس رغم جبروتها
تفقد هيبتها بغيمة .(ص56).
في الوقت ذاته نقرأ في قصيدة (ذاكرة للكسر):
أنا الوحيد من تحايل على الضوء
وحملَ توقيع اليتامى والأرامل
وتدحرج نحو الهواء. (ص67).
هذه الصياغة التعبيرية للغة الشعرية تكرس باتجاه لعبة الوصف ، وهو أمر طبيعي في تجربة الشاعر، وهذا ما يمنحه العمق الكافي في تأطير تجربته بأسلوبه الخاص، ومحاولة جعل كل الاشياء طوع (خلطته الشعرية) ، واذا كانت هذه تمثل جرأة، فاني أحسب جلّ ما سنقرأه لاحقا يحمل مجسات جديدة تؤسس له لونه الخاص، فالشاعر انمار مردان ومنذ مجموعته الأولى أدرك أن شروط اللعبة هي ذاتها شروط المغامرة والتأسيس، وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة ..