رامي الأمين
«العدالة» تبحث عنه، ومعها مريدو الماضي، ومريدو الثأر، ومعها أيضاً السياسة والطائفية اللتان كانتا تشدّان الصوت وصاحبه نحو القعر.
أحياناً يتناهى إلى مسامع العابرين في أحد شوارع مخيم عين الحلوة، شرق مدينة صيدا، صوت حنون يترافق مع عزف على «أورغ» (كيبورد)، لأغنية محمد عبد الوهاب «لا مش أنا اللي ابكي». يتوقّف بعض العابرين، مستريحين من تعب أيامهم وضجيجها، ليُنصتوا إلى الصوت: «… ولّا انا اللي اشكي لو جار عليا هواك»، يغني رجلٌ يدعى فضل شاكر خلف جدران أنهكها الزمن. والصوت يتسرب من هناك، من هشاشة الواقع، كما لو كان همساً من خيال. ينصتون، لأن الصوت مألوف، يعرفونه، يتذكرونه، لكنهم يستغربون أنه يخرج، طازجاً وحيّاً، في وقت ظنّوا مع كثيرين أنه مات، أو قُتل، أو انتحر.
صاحب الصوت يتوارى عن الأنظار، يختبئ هناك في المخيم، لأنه “مطلوب”. ليس مطلوباً لإحياء حفلة، بل مطلوب لـ»العدالة»، بما تختزنه هذه الكلمة من تناقضات حينما تقترن بالمحكمة العسكرية في لبنان. الرجل «مطلوب»، وهارب.
يهرب من «العدالة»، لكنه في الآن عينه، يهرب من الماضي. يفرّ من أيّام توقّف فيها عن الغناء، واندفع إلى حافة الهاوية، وكاد يقفز. ربما يكون قد قفز فعلاً، لكنّ صوته بقي هناك، عند الحافة، مترنّحاً، يحاول النجاة. “انتحر” الرجل منذ ما يزيد على عشر سنوات، وظنّ كثيرون أن صوته سقط معه في الهاوية، إلى أن سمع عابرون في زحام المخيّم صوت فضل وهو يخفق خلف الجدران، في قلب المخيّم الخافق بالحب والفاتح ذراعيه للاحتضان. وعرفوا أن الصوت حيّ، وأن الرجل نجا، حينما انتشله صوته من الهاوية، وبعثه حياً من جديد.
لم يكن يوسف ليُرمى في البئر. لم يكن قدّيساً ليكون حبيس صومعة. كان رجلاً ضئيلاً بصوت هائل. بل كان صوتاً هائلاً برجل ضئيل. كان صوتاً. أما الرجل، فكان ولم يكن. يغيب ويظهر. ينام ويصحو. يموت ويحيا. والصوت، كان كل الحكاية.
والحكاية، كما تتناهى إلى العابرين، تقول إن الرجل بعدما غلبه صوته، أراد الانتقام. لا يعلم العابرون تماماً ما الذي حدث، لكنهم يتهامسون أن الرجل حاول قتل صوته. خنقه. كتمه. دفنه في جوفه. واستعار بدلاً منه أصواتاً أخرى، ليقول كلاماً كان صوته يمنعه من قوله. كلام قد يبدو لكثيرين أنه يتعارض مع الصوت، لكنه في الحقيقة وجهه الآخر. كطفلٍ، في منتهى البراءة، لكنه في الآن عينه يدفعك إلى التفكير بارتكاب جريمة، إذا كان يبكي ويصرخ فيما أنت تركّز في عمل، أو تحاول النجاة بنفسك من الصرع. والرجل الذي خنق صوته، كان كذلك. كان طفلاً، أراد الاعتراض، فلم يجد في متناوله إلا أن يصرخ ويحطّم الأثاث ويرمي بنفسه على الأرض، لكي يقول: هأنذا، انتبهوا إليّ. أنا كائن موجود. لست صوتاً فحسب. أنا موجود وصوتي لي لكنه أقوى مني. يصرخ ليرفع صوتاً فوق صوته. ليقتل صوته بالصخب، لأن الزمن كان زمن خراب وموت ودماء وتعصّب. وصوته كان يغنّي، فيما كيانه يغلي غضباً لأنه غير قادر على تطويع الصوت ليكون درعاً ضد الموت.
يتهامس العابرون أن صاحب الصوت حاول قتل صوته اعتراضاً على الموت. حاول قتله بالقفز في المجهول.
لكن الصوت تشبّث بالأمل فيما كان صاحبه يسقط في اليأس. العابرون يصدّقون هذه الحكاية، لأن الصوت حيّ الآن، ويتسرّب إلى مسامعهم، معلناً انتصاره على الموت، وعلى صاحبه وعلى ماضيهما معاً. والصوت حينما يتسرّب من بين جدران المخيّم، بعدما اختبأ هناك، مع صاحبه، لسنوات، يحكي اللحظات الأخيرة قبل سقوط صاحبه من الحافة إلى القعر، يحكي كيف كان بإمكان معجزة، معجزة الصوت، أن تمدّ يداً لتنتشل فضل شاكر من الهاوية، ليعود، بالصوت، وبالصوت وحده، مؤكداً نجاته من الماضي، وإن كان لا يزال مُلاحقاً من “العدالة”.
الصوت يخرج مألوفاً من بين الجدران، ويخترق السور الوهمي الذي يلفّ المخيم، ويصل إلى الملايين عبر الجدران الافتراضية. هذه المرة يسمع العابرون، في المخيم، وخارجه، في لبنان وخارجه، في الخارج وخارجه، وتسمع “العدالة” صوت الرجل يغني “وينك حبيب/ مذكّرني ولّا نسيت/ مين انا وشو حكيت؟”. يخرج صوته هذه المرة قوياً، كما لو أنه تعافى من الماضي بشكل كاف ليصل إلى الناس ويخبر الحكاية. حاول الصوت قبل ذلك أن يظهر في أكثر من محاولة، بدت هزيلة أمام الضجيج، لكن العابرين كانوا دائماً يسمعون دندنات الرجل من خلف الجدران، تحت سقف التنك (الزينكو)، وهو يسجّل أغنيات، لم يفهموا تماماً كلماتها، التي تصلهم متقطّعة، لكنهم فهموا أنها حشرجات رجل، يناضل ليتنفّس من قمقم حنجرته، ليطلق مارد الصوت.
على «يوتيوب»، في الأغنية الأخيرة التي أصدرها بعد “وينك حبيب”، والتي سمع العابرون نُتفاً منها في عبورهم بالضجيج والهموم، يبدو فضل شاكر كما لو أنه يعاتب صوته: “ولسّه الحالة ما تسرّش/ ولسّه الروح بتستناك/ ما فيش شيء فيا ما تضرّش/ وراحت كل حاجة معاك”. ليخلص مع نهاية الأغنية إلى النتيجة: “كل حياتي واقفة عليك”، يقول فضل شاكر لصوته، والصوت… يغنّي!
موقع درج